وكأنه الطريق الذي أسلكه كل يوم، وكأنها الحارة التي أقطنها، لكن ثمة شيء مختلف، غريب، كأني أعرفها و لا أعرفها، أو أني عرفتها بصورة أخرى، في زمن آخر، أو في حلم عابر، الوجوه غريبة وليست بجديدة، البيوت، الجدران، النوافذ، لا أدري ما بها، الظلال، الأصوات، وحتى رائحة المكان، جميعها تعكس صورة أخرى في وعيي، تأخذني إلى مكان قصي في الذاكرة، ولكن لا أدري أين؟ 
هذا الطفل الذي يسير على حافة السقف وسط هتاف الأطفال أعرفه، مشهد سقوطه، نظرة الرعب في عينيه، صراخ الأطفال وهلعهم، قد مر علي بكل تفاصيله. شعوري بالانقباض والخوف وإحساسي بأن قلبي يسقط، رهبة الموت، كل هذا، متأكد  أني قد مررت به، حتى صوت الارتطام وألمه فد أحسست به! 
أهرع نحو موقع الحادث، وسط المحتشدين أجدني، أشارك في إسعافه، قلبي منقبض، أبقى معه، أراقب حركة الطبيب بكل جوارحي، ولكن لماذا أخرجوا الجميع من غرفة العناية إلا أنا؟!! والده، أقاربه، إلا أنا؟! هل أنا طبيب؟! لا أدري! ، ماذا يحدث لي؟ فأنا لا أستطيع أن أتذكر، فقدت التركيز، عقلي مشوش، ولكن لماذا؟ 
أسهر عليه في غرفة العناية المركزة، 
أتأمله في غيبوبته، إحساس غريب ينتابني نحوه، ليس شعورا بالشفقة، ولكنني ببساطة لا أريده أن يموت. 
ملامحه مألوفة لدي بشكل غريب، أحاول أن أتعرف عليه، أن أتذكره، لكن لا أستطيع. 
أراقبه وهو يصارع الموت ، أتأمل وجهه خلف قناع الأكسجين، فجأة شيء ما ينقشع، وكأنه حجاب انكشف عن بصري، وكصاعقة تضرب رأسي، أو شرارة أضاءت ما حولي، تعرفت عليه، هذا الوجه، هذه الملامح، أعرفها تماما،  عندما يضع القناع على وجهه أمام المرآة. 
يهتز كياني، تزداد حيرتي وارتباكي، فأزداد تشوشا، ويتفاقم هلعي. 
كيف يمكن أن أكون هنا، في هذا المكان، وفي هذه اللحظة، رأسي ينفجر، ربما أنا أحلم. كيف يمكن أنا أكون هنا في طفولته؟ لا أجد لهذا تفسيرا. 
تهاجمني الأسئلة، وتخونني الإجابات، أشعر بالضياع، بالغربة عن نفسي، أشعر بالعجز، فأستسلم لما أعتبرته حلما أو كابوسا. 
اقترب أكثر، أتأمله فيقشعر بدني، ويخفق قلبي بشدة، أحاول أن أهرب، ثم أعود، أتامله من جديد، يطفو في رأسي سؤال ملح،  كيف تحول هذا الطفل إلى ما هو عليه الآن، كيف تحول إلى مجرم، قاتل مأجور، يعيث في الأرض فسادا بدراجته النارية. ومسدسه كاتم الصوت. 
أحاول أن أجد إجابة، فجأة تنساب الذكريات ، وكأنها شريط يمر أمامي بالعرض البطيء. أفتش عن نقطة التحول التي جعلت منه قاتلا، عن اللحظة التي انزلقت فيها قدمه في هذا الوحل. كانت طفولته عادية، لم يمر بظرف استثنائي، لم تكن حياته معقدة، امتلك خياره دائما. كل شيء طبيعي، عدا أنه وهب فرصة جديدة للحياة، الحياة نفسها التي سلبها من ضحاياه. 
أعود له، ويعود السؤال لماذا أنا هنا في طفولته، لماذا هنا، والآن بالذات، هل عدت لأغير القدر،  أتأمل قناع الأكسجين ، هل انتزعه؟!!!   لا أستطيع، نعم لا أستطيع ، ليس لأنه طفل بريء، ولا لأني لست قاتلا، ربما أنا لا أحبه، ولكنني أريده أن يعيش، أحقا يجب أن يعيش؟! 
أمد يدي نحو قناع الأكسجين... 
لا أستطيع  .... 
شيئ ما يجثم على صدري، يخنقني، لا أستطيع أن أتنفس. عيناي مغمضتان لا أقوى على فتحهما، أشعر بأني في حلم،  تتشابك فيه الأحداث، ويتداخل فيه الزمن، ويلتقي فيه الإنسان  بنفسه. أقاوم غيبوبتي، فأسمع همسا :
-هل أطلق النار؟ 
-لا، الأوامر تقضي بأن نتخلص منه بهدوء، انزع عنه قناع الأكسجين. 
أشعر بالأيدي تقترب، يغوص قلبي في صدري، أحاول أن أفتح عيني، أن أصرخ، لكن لا أستطيع...