هبطت وادي الثعالب مستعجلا.. فقد نسيت حقيبتي في المقهى الذي احتسي فيه الشاي.
 وبما أن نسيان حقيبة بكاملها أمر ملفت فأنا إلى الآن لا ادري كيف نسيتها.. فقد ظللت لفترة طويلة اراقب الجرسون كيف يلتقط المواعين.. ثم يقف في ذلك الركن ساهما.
 ومع أن هناك أشياء شغلت تفكيري مثل اسم المقهى (مستودع بور سعيد) والراديو العتيقة  إلا أن أهم شيء كانت  صورة هندام صاحب المقهى.. فقد كان ذو كرش واسعة ويمضغ (التانبول) بنهم.. ولم يكن ينتعل حذاء بل كان يجلس في طرف المقهى.. على كرسي خشبي متهالك.. وتصدر عنه بين فينة وأخرى لعنات للجرسون الذي يتبأطأ في تلبية رغبات الزبائن. لكنه يكتنفه صمت مطبق احيانا ويغدو بسمنه كقطة متكومة على بعضها تدير عينيها في الاشياء بصمت.
 وعندما كان ينهض ينهض بتثاقل وهو يرنو إلى الأفق بصعوبة وقد امتدت أمامه أحراش النخيل ودروب القرية وبيوتها المصنوعة من الصفيح وعدا ذلك كان يتفقد أباريق الشاي وهي  تغلى على النار.. ويبدو لي شخصا شرسا من الخارج لكنه وديع من الداخل.. يتعامل مع الأشياء وكأنه يراها لاول مرة.
كانت كل هذه التفاصيل تمر على فكري وانا عائد إلى المقهى ولم يخامرني اي شك في عدم العثور على الحقيبة فالناس هنا على قدر من الطيبة خاصة واني كنت ارتدي بنطالا واضع نظارة شمسية على عيوني واتحدث بتلك اللغة التي تبدو لهم غريبة ومسلية. وأخذت أثناء ذلك ارتب في ذهني محتويات تلك الحقيبة فاذكر اني وضعت فرشاة الأسنان في الاسفل أما في الأعلى فقد وضعت ديوان:( اكليل لامرأة قتبانية في القلب) ووضعت أيضا بعض النقود.كانت السيارة التي تقلني تسير في طريق وعرة وكنت أمر على المنازل الحجرية والمزارع الصغيرة في وادي الثعالب وابصر بعض النساء المزججات عيونهن بالكحل وبعض الحمير التي تجلب الماء وقد بدأت السحب تحتشد في السماء .
واقتربت بي السيارة من وسط القرية.. ويممت يمينا حيث وجدت نفسي مع هتاف صاحب المقهى.. وهو يناولني الحقيبة.. والجرسون يقف على مقربة مني مبديا ارتياحه مقدما لي كوب الشاي الدافىء.. وقد طفقت تتناغش في ذاكرتي تفاصيل مشابهة.
 وماإن فتحت الحقيبة حتى فؤجئت باختفاء الديوان. .وتساءلت في نفسي: ألم تقم سميرة.. زوجتي.. بوضعه في الحقيبة؟ أم أنها أخفته لتؤكد عدم حبها للشعر؟ ولكني لم أجد الإجابة إلا في ملامح ذلك الجرسون المنزوي.. في ركن المقهى .