اكثر الأشياء صعوبة ان تعتقد انك قريب من شخص ، وتحبه ، وتعتقد انك تعرف عنه كل شيء ، وفي اللحظة التي تفقده وتريد الكتابة عنه تكتشف انك تجهل عنه اشياء كثيرة ، ولاتعرف عنه إلا القليل !  وان اكثر الاشخاص صعوبة هم أولئك الأكثر بساطة ، لأنهم الأكثر عمقا ، عطاءا ، طيبة ، حبا للناس ، ونكرانا للذات .
  قل هذا واكثر عن عمي عمر محفوظ المضي (1926- 2010 ) زوج عمتي الأثيرة سلطانة بنت احمد بحاح .
 لاندرك قيمةمانحب ومن نحب إلاّ حين نفقدهم ! لعلنا بالموت وحده نستدل على قيمة الحياة ..قيمة ماكان بين أيدينا ، وفقدناه . وبهذا المعنى يعتبر الموت اقرب واقوى الأدلة على الحياة ! 
 ولدفي الديس الشرقية .. والديس ارض النخيل ، والصيق والمياه الكبريتية ، والمعايين الكثيرة ، حيث يستفيق الأطفال ويكبرون ويلعبون وسط النخيل ، قبل ان تشدهم زرقة البحر غير البعيد .....
 طفولته لاتختلف عن طفولة اي من اطفال الديس ، حيث ولد لأبوين حضرميين .ابوه هو محفوظ مبارك المضي ، وامه مريم محفوظ بن علي  سليمان  . 
   مثل كل اطفال الديس لعب في أزقتها الترابية، شرب من ماء صيقها ، اكل من تمرها ، وخبزها وسمكها المدهور . وكان محظوظا إذ تعلم على يد الشيخ مبارك باراشد  في مدرسة الإصلاح الأهلية . . وعرف عنه ذكاؤه وتفوقه منذ تلك السن المبكرة ، فتعلم القراءةوالكتابة، والقرآن الكريم ، وبعض مباديء الحساب . وكان ذلك هو التعليم المتاح في ذلك الزمن ، لكنه أيضا على قدر من القوة والجودة بحيث يؤهلك للإنخراط في معترك الحياة . كما عرف بين زملائه بصوته العذب ، فكان يرتل القرآن في الإحتفالات التي تحييها المدرسة ..
  كانت الحياة صعبة ، لاتقدم الكثير من الفرص ، فركب البحر ، وعمل مع اخيه الكبير الناخوذة سالمين محفوظ ، في سفينة شراعية تعود لهم ، وابحروا بها مرات إلى موانىء الكويت وجدة وعمان والبصرة والهند وغيرها ، كما عملوا على سفن أخرى تعود لسواهم  ، وتدّرج حتى صار ناخوذة هو الآخر مثل اخيه سالمين الذي كان قبطانامشهورا .. ومعروف عن ابناء الديس والحامي انهم صناع سفن شراعية وربابنة بحار لايشق لهم غبار وصلوابسفنهم حتى الهند والسند ، و الشواطيء الإفريقية وحتى شرق آسيا ..
  لاشك ان عوده قد تصلب خلال عمله في السفن الشراعية ، فحياة البحّارة والبحر على مافيها من اخطار وقساوة ، تعلم الصبر والجلد ، لكنها تجعلك على الدوام بعيدا عن الأهل والوطن ، وفي الوقت عينه مكانا للصقل وتكوين الذات ، لكنها لم تكن للفتى عمرمحفوظ مجالا يمكن ان يقضي فيه بقية عمره ! خاصة بعد ان غرقت سفينتهم اثر تعرضها لعاصفة قرب سواحل المهرة .
  مثل كل الشباب في عمره ، داعبت الفتى عمر المضي احلام الهجرة ، ولاشك انه خلال عمله في السفن الشراعية لسنوات ، والموانىء التي رست فيها ، قد رأى الكثير من حياة المدن ، وقارنها بالديس التي لم تكن حينها سوى بلدة صغيرة لاتقدم فرص عمل كثيرة ، ولم يكن الدكان الصغير الذي افتتحه في السوق القديم في شبابه مما يرضي طموحه او يلبي حاجاته وحاجات اسرته ..
  كانت عدن وجهته الأولى ، وكانت عدن في سنوات نهوضها التجاري والاجتماعي والثقافي ، سنوات الخمسينيات ، فعمل لدى بعض تجارهاالمشهورين اهمهم باشنفر ، وفي مرحلة لاحقة في شركة هائل سعيد انعم في المعلا محاسبا ومراجع حسابات وامينا للصندوق ، وكان المرحوم هائل يكن له تقديرا وإحتراما خاصين لأمانته وخبرته ، وهي صفة تلازم الحضارم في كل مكان ، وعمر محفوظ المضي بصفة اخص إلى درجة ان العم هائل حاول معه كثيرا ، وعرض عليه تحمل مسؤولية شركته في الحديدةاوتعز بعد ان نقل نشاطه التجاري إليهما ، لكنه اعتذر له بطريقته المهذبة ، وانتقل للعمل مع شركةالغنامي ، وخلال عمله معه كان يسافر عدة نىات في السنة إلى صنعاء وتعز والحديدة لفحص ومراجعة حسابات الشركة هناك . ثم عمل لدى شركة" فيات " في المعلا - دكة الكباش ، ولدي مكتب الجبهة الشعبية لتحرير عٌمان في عدن . ولفترة ايضا عمل لدى اولاد فارع في نادي خليج الفيل في جولد مور ..
   لكل فتى حقه من الأحلام والآمال ، والطموح المشروع .. كانت السعودية مكانا استهوى الحضارم السفر او الهجرة إليه ، وكانت تشهد ورشة عمل هائلة خاصة بعد اكتشاف النفط فيها ، ولعب الحضارم دورا كبيرا في نهوضها الإقتصادي والمالي في السنوات الأولى لنشوء المملكة وبعدها.وقدحوّل كثيرون وجهتهم إليها بدلامن شرقي آسيا وافريقيامناطق هجرتهم التاريخية .
 هاجر فتانا عمر إلى السعودية ، فعمل اول ماعمل في المشاريع الجديدة في قطاع  الإنشاءات ، التي بدأت بعد حقبة النفط ..
ثم انتقل للعمل في البنك الأول في الرياض الذي اسسه رجل الاعمال الحضرمي بن محفوظ ( البنك الاهلي ) وعمل هناك لعدة سنوات مكتسبا خبرة في المحاسبة .. واسس مع أقرانه في البنك فريقا لكرة القدم اسموه الهلال .
  لسبب ما لم يفصح عنه ابدا  ملّ فتانا العمل في السعودية ، فهو من النوع الصبور الذي لايشكو ولايتبرم ، ويتخذ قراراته بناء على قناعاته ، لكن الهجرة او الغربة رغم انها كربة كما يقول الحضارم انفسهم ، لكنها كتبت عليهم اكثر من غيرهم هم بالذات . اينما ذهبت ستجد حضرميا ، وستجد آثارهم تدل عليهم في التجارة والأمانة والنجاح ونشر تعاليم الدين الإسلامي ، سواء في شرق افريقيا او شرق آسيا ..
  السعودية لم تكن سوى محطة ، المحطة التالية كانت الكويت ، التي حظيت هي الأخرى بطفرة النفط ومارافقها من نهوض وفرص عمل ، فاصبحت وجهة الحضارم خاصة من ابناء الديس والحامي والشحر . وكانت الكويت اكثر انفتاحا اجتماعيا وثقافيا ، فكانت وجهته ايضا ، وكان ذلك في بداية ستينيات القرن الماضي فعمل محاسبا لدى إحدى الجمعيات التعاونية الكويتية ، ثم لدى التاجر الكويتي المحروس ، ولدى التاجر الكويتي الأربش . وكما ترك السعودية غادر الكويت .كان من النوع الذي لايطيب له العيش في مكان واحد ، وكأنه يتبع المثل القائل ومالذة العيش إلاّ بالتنقل !! 
  ظل التاجر الكويتي المحروس يبعث له الرسائل تلوى الاخرى ، راجيا منه ان يعود للعمل لديه ، وخلال هذه الفترة افتتح دكانا صغيرا ومشربا في بيت محفوظ عبد الله في بلدته الديس ، ولم يعد إلى الكويت إلاّ في عام 1965 ، لكن لم يطل به المقام إذ سرعان ما تركها بصفة نهائية ...
  وقبلهما ومابينهما كانت عدن ..وماأدراك ماعدن ! 

      وللحديث بقية