لعله لم يحب مدينة من المدن الكثيرة التي راءها وعاش فيها مثل عدن ..  ستكون هذه المدينة المكان الذي يجد فيه راحته ، وملاذه الذي يلجأ إليه ، كلما ملّ المدن ، وتعب من الغربة . هنا لايحس بغربة ، كأنه في بيته الديسي ..إذّا ترك الرياض جاء إلى عدن .. وإذّا سئم الكويت لاذ بعدن ، وإذّا تعب من المطارح كانت عدن حضنه .. المدينة التي حلم بها مرات ، وعاش فيها عقودا ، ويستعيد كثيرا  مشاهدها وذكرياته فيها إذّا ابتعد عنها ، ولوقليلا ، ويشتاق إليها في كل وقت ..
      اي سحر في هذه المدينة .. اي سحر .. ؟! 
    مامن إنسان ياتي إليها إلاويشعر بأنه جزء منها ، من حجارتها ، من بحرها ، من جبالها ، تاريخها وعراقتها ، من جمالها ، وروحها الخالدة ...
  لكن المدينة ليست الحجارة والبيوت .. المدينة هي الناس الطيبين الذين يستقبلونك بالمحبة .. هي المشاعر الإنسانية .. ولا شيء اكثر من الحب .. الفن والموسيقى والإنسان يجسد دفء مثل هذه الأحاسيس ...
   في عدن كوّن صداقات لاحصر لها . ما من احد تعرف على عمرالمضي ، او (ابوصالح ) كمايكنى نسبة إلى إبنه البكر ، إلاّ وأحب هذا الرجل ، لطيبته ، ونبله ، و لسجاياه الحميدة . 
  من كان في عمره اعتبره اخا وصديقا ، ومن كان اكبر منه اعتبره إبنا له ، وإن كان اصغر منه اعتبره بمثابة الأب الروحي والوالد . الكل مجمع على انه الأب والأخ والصديق الذي يلجأون إليه ويبثونه همومهم ، فيستمع إليهم ، ويتسع لها صدره ، ويساعدهم على إيجاد الحلول بقدر مايستطيع ، على الأقل بالكلمة الطيبة والنصيحة .. كان قلبا طيبا يسع لكل الناس ..لم يسمعه احد ينطق بكلمة تجرح ، اوتسيء ..كان نوعا من البشر الإستثنائيين في زمن إستثنائي .!  أو كما وصفه البعض ملاكا بصورة إنسان ...
   كان في عدن قوة جاذبة .. فتحت هذه المدينة عينيه على مختلف الآفاق ، وعلى مختلف التيارات الفكرية ، فبعد نكبة فلسطين في 1948 ، وثورة يوليو في مصر 1952 تبلورت افكاره السياسية القومية والناصرية كغيره من شباب تلك الفترة الذين آلمتهم الهزيمة ، ورأوا الأمل في  المد القومي العربي التحرري ، لكنه لم ينتم إلى عضوية اي حزب أوتيار بعينه ، وربما بحكم ميوله القومية والناصرية ناصر هذا الحزب او تلك الجبهة ، وهو امر طبيعي لكنه ايضابحكم تكوينه الشخصي ، ووسطيته لم يعاد اي حزب اوتيار من التيارات الموجودة في الساحة .. كان صديقا للجميع والجميع صديق له ، وهي حالة نادرة نحن احوج مانكون إليها الآن ، وفي كل زمن وإلى شخصيات وازنة من نوع عمرالمضي .
   كان ثم امر آخر ، في عدن غير السياسة التي لم يكن يهتم بها كثيرا . كانت عدن مدينة للثقافة والفن ، وهما أمران ربما لم يجدهما في مدن التصحر التي كانت في طور التشكل ، بينما كانت عدن قد قطعت شوطا كبيرا في التعليم ، والمسرح ، ودور السينما والصحافة والإذاعة، وسبقت تلك المدن بأشواط .. 
  كان كل شيء هنا مبهرا ومتاحاوستكون هذه الآفاق مثار إنتباه الفتى عمر المضي . الموسيقى والغناء بدرجة رئيسة . وكان الله قد حباه بصوت عذب ولا اجمل منه ، فولع بالفن والموسيقى منذ صغره ،  وتعلم العزف على العود واجاده ، وكان ضاربا ممتازا على الإيقاع .. 
 بعض المعلومات تقول انه تعلم العود على يد سعيد باسيف وهو رجل من شبام تعرف إليه اثناء عمله في السعودية ، لكن معلومات اخرى تقول انه سابق لذلك وتعلمه في بلدته الديس عندما كان يرافق عمارو رموضة الذي كان مغنيا وعازفا للعود ، قبل ان يذهب إلى السعودية ، كما انه تعرف في الكويت على صديق سوري عازف للعود ، ولاشك ان حبه للطرب وشغفه بالغناء جعله يتعلق بهذه الآلة و يتقن عزفها بمجهوده الذاتي ، وكان يمتلك عودا عراقيا اصليا من صنع صانع الأعواد المشهور محمد فاضل .    
   تشكلت ذائقته الفنية من كنوز الغناء الحضرمي القديم ، والألوان المحلية الأخرى ، وكان معاصرا للفنان محمد جمعة خان الذي يعود إليه فضل كبير في تجديد الموسيقى والأغنية الحضرمية .. 
  كما تشكلت ذائقته من روائع الفن العربي  لعبدالوهاب ، وام كلثوم ، ووديع الصافي ، وغيرهم من الكبار ، لكنه رغم صوته العذب الجميل لم يحترف الغناء أبداََ . 
 كان الفن بالنسبة له مجرد هواية ، اكتفى منها بالغناء لأصدقائه في الجلسات الخاصة ، ولم يطمح منه بأكثر من ذلك ، مع انه لو احترف الغناء لأضطر كثير من الفنانين إلى الإعتزال ! ولأصبح من شيوخ الطرب الذين يشار لهم بالبنان .. 
     ساعده تجويده للقرآن منذ صغره في المدرسة على إجادة المقامات الموسيقية ، وهو امر يشترك فيه مع كبار المطربين الذين بدأوا حياتهم بتلاوة وتجويد القرآن امثال : عبد الوهاب وام كلثوم وصباح فخري وابوبكر سالم بلفقيه ، لذلك لم يكن ينشز او يخطيء في اللغة العربية اثناء غنائه ، ويختلف عنهم بانه لم يحثرف الغناء ، وعوّض عن ذلك بجلسات الخميس والجمعة في بيته لممارسة هوايته وشغفه بالموسيقى والغناء .
وكان من الجلساء الدائمين لتلك الجلسات في بيت " ابو صالح " بالمعلا  الذين يحرصون الاٌتفوتهم ابداََ ، كل من الملحن احمد بن غوذل ، المايسترو عازف الكمان نديم عوض ، وابنه نديم المضي، العازف على القانون والعود والكمان واكثر من آلة موسيقية والذي اصبح فيما بعد قائد الفرقة الموسيقية لوزارة الثقافة ، عازف الكمان عارف جمن ، والأستاذ عبد الله احمد العماري ، عازف عود مجيد من غيل باوزير ، كان هو الذي يعزف له العود حين يغني  بينما يضبظ هو الإيقاع . كما يحضرهاعازفون آخرون  ، وفنانون قادمون من حضرموت لزيارة عدن في  مناسبات مختلفة من بينهم الفنان الكبير سعيد عبد المعين ، والملحن إبراهيم الصبان ( صاحب لحن بعد المكلا شاق من كلمات الشاعر الفذ خالد عبد العزيز ) . وكان عبد الله المضي وهو فنان مثل ابيه لم يحترف الغناء من الحضور الدائمين لتلك الجلسات .
  وماكان محمد احمد شحور وهو زميل من ايام الصبا اعرف امكانياته الصوتية في الغناء وشاعر ليفوت جلسات الخميس والجمعة في بيت ابي صالح، ولا كذلك الفنان عوض احمد سليمان عازف العود المعروف ، ولاالفنان عبد الله الصنح ، ولاعب الفريق الوطني لكرة القدم محمد صالح بن اسماعيل السقاف ، وزميلي من الابتدائية محمد سعد باصلعة، وجميعهم من ابناء الديس الشرقية بلد عمي عمر المضي ومن اصحاب الذوق الرفيع والسميعة الذين يحلو بهم المجلس . بالطبع يحضرها اخرون مثل : حسن زين السقاف ، محمد عبد السلام الجيلاني ، الشاعر محمد حسين جحوشي ،  صالح احمد بن سلم ، د . صالح عرم ، عبد الله حمدون ،  امين جوبان . وهناك اخرون يحضرونها ببن وقت وآخر لم نذكر اسماءهم .
   اما الفنان احمد قاسم ، والفنانان عبد الكريم توفيق ومحمد صالح عزاني وغيرهم فيحضرون هذه الجلسات بصفة غير منتظمة . 
   هنا في هذه الجلسات كنت تسمع اغان حضرمية لايمكن أن تسمعها في أي مكان آخر .. 
    وهنامن الأغاني الحضرمية والتراثية التي تغنى في تلك الجلسات في بيت عمر محفوظ المضي ، ربما نشأت لدى الملحن احمد بن غوذل فكرة إنشاء فرقة "كورال "  التي ظهرت إلى الوجود بعد ذلك باسم " فرقة الإنشاد" واكتسبت شهرة واسعة في الداخل والخارج ، وضمت فنانين معروفين من الجنسين . 
  معظم الأغاني الحضرمية التي غنتها الفرقة هي التي كانت تردد في صالون المضي الفني ، وقد عرض بن غوذل الشريط "التجريبي " الأول للفرقة الذي سجله لهم عبد الوهاب بازرعة ، على ابوصالح وبعض رواد المجلس ، للتأكد من سلامة نطقهم للغة وادائهم للألحان .كما كان يحرص على إسماعهم اولى اغاني الفرقة قبل ان تسجل للإذاعة والتلفزيون في عدن . وكان لدى بن غوذل مشروع آخر بعد نجاح الفرقة لإنشاء فرقة كورال خاصة بالأطفال لكن لم ير النور . 
  كان ابوصالح ، صديقا لكثير من الفنانين من مختلف الأجيال ، وهي صداقات كوّنها خلال سنوات عمره  ، وعلى رأس هؤلاء الشاعر والملحن الكبير السيد حسين أبوبكر المحضار ،  والفنان عبد الله حاج بن طرش ، وكان الفنان والموسيقار الكبير احمد قاسم يطلق عليه ( ابو الفنانين ) .. وكان صديقا له ولغيره من فناني عدن في حقبتها الذهبية وزمنها الجميل . ومن اصدقائه جميل غانم ، سالم بامدهف ، ياسين فارع ، محمد عبده زيدي ، حسن فقيه ، احمد تكرير ، سالم عبد الله وغيرهم .
   حينها كانوا شبابا في بداية مشوارهم الفني ، واحتفظ بصداقتهم حتى بعد أن صاروا فنانين كبارا ومشهورين يشار لهم بالبنان ، وتذاع اغانيهم في الإذاعة وفي التلفزيون عندما دخل عدن سنة 1964م . 
  وكان الفنان ابوبكر سالم بلفقيه ، ومحمد سعد عبد الله في مطلع حياتهما الفنية ، يأتيان للغناء في مقيل سعد باصلعة في كريتر ، او في بيت عمر محفوظ المضي في جبل العيدروس . 
    ومما لايعرفه احد ، إلاّ القلة ان الفنان احمد قاسم عندما تضيق به الدنيا ، لم يكن يجد الهدوء والسكينة ، إلاّعند عمر المضي ، هناك في غرفة من غرف بيته في المعلا ينزوي ويحتضن عوده ويظل يعزف ملاحقا نغمة شاردة هنا اولحنا هناك .. وربما ولدت بعض الحانه الأولى في بيت عمر محفوظ المضي .. وعندما ينتهي يوصله بتاكسي إلى بيته في حافة شريف حيث تكون امه تنتظره في " الطاقة " !  لكن ظلت تلك من الأسرار التي احتفظ بها الرجلان ولم يبوحا بها لأحد ...! 
  كان الغناء يجري في دمه ، لكنه ابدا لم ينجر إلى احترافه ، رغم ان الإغراءت من حوله كانت كثيرة ، وكان قريبا من كبار المطربين وصديقا لأكثرهم ، كما كان قريبا من رجال الإعلام والصحافة وصانعي النجوم .. وكثيرا ماالحوا عليه ان يحترف الغناء عندما يستمعون إلى عزفه وصوته الآسر الذي هونسيج وحده ، فلايحظون منه إلاّ بالصد على طريقته المهذبة ، وجل ماينالهم منه ان يستمعوا ويطربوا له حين يغني في جلسة من جلسات الخميس والجمعة .  
    لطالما الح عليه الشاعر والكاتب فريد بركات ، حين كان المدير العام لتلفزيون عدن في بداية ثمانينيات القرن العشرين ان يسجل له بعض الاغاني فلم يحصد منه إلا الإعتذار بطريقته المهذبةوبلغ إلحاحه إلى درجة ان اغراه ان ياتي بعربة النقل الخارجي إلى بيته إن كان لايريد الذهاب إلى مبنى التلفزيون في التواهي دون جدوى ! 
  في كل مرة كان يعتذر حتى يئس فريد بركات ولم يعد يلح عليه ... فلم يسجل اسمه في قوام المطربين لكنه كان من قمم الطرب والغناء الأصيل حتى لو لم يحترف الغناء ..
     ولعلّ ذلك الدرس الأول الذي اراد ان ُُيُعلمه لكل من اراد ان يحترف الفن . وقد طلب من فريد بركات عوض ان يسجل له ، ان يعطي فرصة للفنان سعيد يمين فيسجل له بعض اغانيه خاصة ان التلفزيون لم يرد على طلبه . وحدث معه موقف مماثل في الكويت ، حيث طلب منه مسؤولون في اذاعة الكويت استمعوا إلى غنائه في احدى الجلسات الخاصة ان يحضر إلى الإذاعة ليسجلوا له ، لكنه تملص منهم ، وبدلا منه سجلوا للفنان ياسين فارع . 
وحتى محاولاته في التلحين لم يعرضها على احد من اصدقائة الفنانين على كثرتهم ليغنوها . وكان الفنان الديسي سعيد يمين  الذي برز في ستينيات القرن الماضي يعرض عليه الحانه واغانيه ، ويستأنس برأيه ويأخذ بملاحظاته . 
  لم يكن عمر محفوظ المضي يسعى إلى الشهرة ، ويهرب من الأضواء .. نستطيع القول انه كان زاهدا فيهما ، ويمارس عشقه للفن والموسيقى في محرابه على طريقته الخاصة ، إلى درجة ان الصحفي محمد سالم قطن حاول معه مرارا وتكرارا ، إجراء حديث معه عن حياته لنشره في جريدة" الأيام " الواسعة الإنتشار الصادرة في عدن ، لكنه لم يفلح ...
  ولم يستطع احد ان يزحزحه عن موقفه هذا ....

        وللحديث بقية