محمدعمربحاح ✍🏻

       لم تنسه عدن ، ولاالمدن الكثيرة التي ذهب اليها للعمل او للزيارة لحظة واحدة الديس الشرقية .. ورث هذا الحب من جيناته الوراثية .. من القويرة ، وطين بيته في العليب .. من ماء الصيق .. من الحنين إلى سلطانة واولاده خلال سنوات غربته الطويلة بحِّْارا ، وطيرا مهاجرا ، ستكون دائما معه حتى حين يكون بعيدا عنها ، يحملها في قلبه ، وتسكن احشاءه .. حب الوطن يبدأ من هذه المساحة الصغيرة ، التي إسمها البيت ، الأسرة . اصدقاء الطفولة واللعب ، الذكريات ، الأشياء الحميمة ، التي تختزنها الجدران ، الأزقة ، والطرقات الترابية التي تمشي عليها أرجلنا .. وفي الإكتشاف الأول لأحلامنا التي تكبر معنا مع الوقت فتأخدنا بعيدا ، لكنها تعود بنا إلى البيت .. الأسرة..  الوطن ، بكل مافي خلايانا من حب وشوق وتوق ..
  هنا تتوحد حيث مسقط الرأس ، بعد ان تكون قد شهدت العالم ، وكتبت جزءََ من تاريخك وإنجازك فيه .. لكن قد يكون إنجازك الأهم هنا ، انك كونت اسرة متماسكة ،  متحابة ، انجبت اولادا يحملون إسمك ويخلدونه : صالح ، وعبد الله ، ونديم ، ومحمد ، وسمير عمر محفوظ المضي ، تزوجوا وانجبوا لك احفادا كثيرين صرت جدا لهم ، كما اصبحت عمتي سلطانة حبابتهم ، لم يخب املك فيهم لافي حياتك ولابعد مماتك . فمن كان مثلك لايمكن ان يربي إلاّ ذرية صالحة ، والذري الصالح لاينتج إلاّ اشجارا مثمرة .. وهكذا تستمر الحياة ...
 وبحكم العلاقات الاجتماعية المتشعبة والمتداخلة في الديس الشرقية ، كنت جدا للكثيرين من الشباب والبنات الذين يحملون لك كل الحب ويفخرون بأن جدهم عمر المضي ..
    ساعيا بالخير ، محبا له ، صبورا ، كان
 وله أياد بيضاء على كثيرين لم يصرح بها ، لكن انتفع وينتفع منها كثيرون . وعلى سبيل الذكر لاالحصر : تسوية وتعبيد "العقبة" التي يعبر عليها المشاة والسيارات من أسفل العليب في القويرة ، اومانسميه الحفرةإلى أعلى القويرة ،  فسهل على الناس إجتيازها دون صعوبة ، وأراحهم  من العناء . . ِشراء مولدكهرباء المسجد الجامع في الديس من التبرعات التي جمعها في عدن من أهل الخير ، وعندما نقص المبلغ سعى لدى بازرعة التاجر الذي اشترى المولد منه، فتبرع بباقي قيمته . وكان له إسهاماته في تأسيس نادي الإخاء والتعاون ، وفي مشاريع التحديث والتطوير ، وتشحيع التعليم الحديث ، وكهرباء الديس وغيرها.
   رغم الخبرة التي اكتسبها من العمل في المحاسبة ، لدى بنوك وشركات وتجار كبار في عدن والكويت والسعودية ، لم يكن يتردد ان يعمل في اعمال اقل شأنا ، كأن يفتتح دكانا ومشربا صغيرا في الديس ليكسب عيشه ، رغم انه لم يكن يجني من هذا العمل الكثير ..لكنه ربما اراد من ضمن اشياء كثيرة ، ان يعلم غيره ان العمل مهما كان صغيرا ليس عيبا ، طالما يكسب المرء رزقه بالحلال ..كما اراد ان يعلم الأجيال  ان الركون إلى الكسل وانتظار أن ياتي المرء الرزق دون ان يجد في طلبه ، ليس من شيمه . 
 وبعد عودته من عدن واستقراره في بلدته الديس وسط اسرته عمل لفترة قصيرة لدى فرع شركة التجارة الداخلية ليشغل وقته ولايركن إلى الكسل والخمول .وفي كلا الحالتين كان يقلص المسافات بين الممكن والمستحيل ..
   وكان رحمه الله ، يحب المرح وصاحب نكتة ويشتاق إلى الضحك .. 
  وبقدر ماكان يحب الموسيقى والطرب ، كان محبا للقراءة يقرأ كل مايقع بين يديه من كتب ومجلات ، وكان ذلك جزءََ مما كوّن مخزونه الثقافي والفني ، وخفف إلى حد كبير من جفاف التعامل مع الأرقام والحسابات بحكم عمله ..
   ومع ان صلته بتلاوة القرآن الكريم لم تنقطع طوال حياته ، إلاّ أنه كان كثير القراءة لكتاب الله ولكتب التفسير خاصة في السنوات الأخيرة من حياته. كان رجلا وسطيا في كل شيء في  حياته ، في ملبسه ، وفي طعامه ، وشرابه ، وفي معتقداته الفكرية والسياسية .. معتدلاََ في اكله ، إذّا اكل فحسبه لقيمات ، ولايشرب من الماء إلا القليل . لايكتنز مالا ، وعاشت اسرته في يسر وقناعة ، وبذلك حقق عمق الترابط بين الدنيا والدين ، وكسب سلامه الروحي والنفسي ، فلم تكن له خصومات مع احد من اي نوع .. وعاش حياته بصدق ويقين . 
    وحين جاءت لحظة النهاية التي لابد منها لكل كائن في هذه الحياة ، كان مستعدا لها ، غير وجل ولاخائف ، تعرض لكسر في رجله وهو يعلف غنما كان يربيها ، وخضع لعملية بروستاتا ، واجرى عملية عيون ، وفوق هذا عانى من امراض الكبر والشيخوخة ، لكنه قابل كل هذا بصبر وإيمان المؤمن ، لايشكو ولايتبرم . واسلم الروح على فخذي إبنه عبد الله ، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها ووري جثمانه ثرى الديس ، لكن ذكره العطر وسجاياه الطيبة تظل ترفرف في الفضاء وبين جوانح كل محبيه .. 
    غفر الله لعمي عمر محفوظ المضي واسكنه فسيح جناته ... آمين .