في الصيف ، نذهب إلىالبحر ، عند خالي سعيد ، في ميناء " ميط " ..  المحيط يتسع إلى مالانهاية ،ويلتقي الأزرقان ، فلاتتبين الأزرق من الأزرق !..   
  البحر يأتي بالسفن ، الخشب ، السمك ، القناني الفارغة ، البضائع ، والركاب من " عدن وين "..حلم كل من يريد السفر ،  وبالبحارة من المكلا ، الشحر ، الحامي . القرن ، وصور . 
    للسيف رائحة نفاذة..اعشاب ذات الوان يقذف بها البحر تستلقي فوق الرمال الفضية الناعمة ..قواقع باحجام واشكال والوان مختلفة..سرطانات صغيرة وكبيرة ، تطل برؤوسها ، تخرج من مخابئها ، تركض في كل الإتجاهات تدخل حفرها اوتهرب إلى البحر حين نطاردها، وطيور نورس تنقض على اسراب السردين ،اوتسترخي على الشاطيء ، ترقب المحيط مثلي وبين حين وآخر تطل رؤوس من البحر اوتدخل إليه لأطفال عرايا مثلي يحلمون بالسفر .
   نمضي الوقت في لعب وسباحة ، جمع اشياء البحر ، ونحلم بركوب المحيط الشاسع . 
   حققت حلمي ذات بحر واجتزته في الإتجاه الآخر دون عودة..نفس المحيط الذي جاء منه خالي سعيد من غيل باوزير ككل الحضارم الذين تستدعيهم " جينات " الهجرة التي لاتكف عن التكاثر ، ورسابه القدر هنا ! ربما جاء مع جدي سالم الحار اوبعده،لكنه جاءمثله،ومثله لم يعد !! 
   تشتهر "ميط " كميناء تاريخي قديم للسفن الشراعية..ترسو بعيداََ عن الشاطيء  ، تفرغ حمولتهامن التمر ، السكر ، الشاي ، الحبوب ، الارز ، الدقيق ،الاقمشة ، غاز الانسولين ، والركاب بقوارب نقل  صغيرة على ظهور حمالين اشداء، وتشحن اللبان ، الاخشاب ، السمن ، الكباش البربري ، التيوس ، والجلود .جزء كبير من تجارة عدن وحضرموت مع شمال الصومال مر من هنا ذهاباوإيابا، وكذلك الهجرات في الإتجاهين ! 
  ******
  شيئان يميزان خالي سعيد ،صوته العالي بحيث تسمعه الأسماك في البحر ، وإدمانه تشكيل الطين وتحويله إلى بيوت على غرار البيوت في حضرموت التي جاء منها ذات بحر ، تاركا زوجه واولاده . تزوج جمعة الصومالية ، كان عليها ان تحتمل مزاحه الثقيل حين يناديها ب "العبيطة" ، وان تحبه وتنجب له ولديه إدريس وعمر اللذين ورثتهما اديمها !
    خالي سعيد ، من الماءوالطين ، بنى تقريبا معظم بيوت ميط من - المدر الذي يشكله من الصباح ويعرضه للتجفيف تحت حرارة شمس الصيف اللاهبة .. المهرة الوحيدة التي يجيدها وتعلمها في بلده الأصل غيل باوزير ، مستندا إلىخبرة حضرموت التاريخية في العمارةالطينية وحضارتهاالتي لاتشيخ .
    اهل "ميط " هم الذين اسموه "صانع الطين ". مذ عرفوه لايرونه إلامغروسا وسط الطين المبلل ، يشكل منها تلك القوالب ، وحين تجف يحولها إلى بيوت . 
 في البداية سخروا منه ، لم يقبل احد ان يبني له بيتامن طين..قالوا سينهار مع اول مطر . عندمارأوا بيته الذي بناه صامدا لسنوات صاروا يطلبون منه ان يبني لهم بيوتهم ايضا،فصارت اغلب مساكن الميناء من طين خالي سعيد ماعدا عدة مبان حكومية .
    يشبه خالي إلى حد بعيد جدي سالم سعيدباشطح الذي اسماه على إسم ابيه . اخذجيناته في القامةالربعة ،البنية القوية، وحدة الطبع والصوت، تظنه يتشاجر مع احدحين يتحدث بينما يتكلم بشكل طبيعي ! 
  حين انتقلنا إلى عدن كان يأتي لزيارتنا بين وقت وآخر ، وكان الجيران يقولون لأمي :        
   - لماذا كلما جاء هذا الرجل يتشاجر معكم ؟ 
   تضحك امي وتقول : 
  انه اخي الكبير ، ويحق له ان يرفع صوته كما يشاء ! 
    كان خالي دائم الشكوى من شيء ما .. مرة من ابنه البكر ومن إمرأته في حافة حسين التي لم ينجب منها ، ولايريد ان يتزوج عليها ،او يطلقها. ومرة انه لايبره كما ينبغي من إبن بوالده . ومرات من عمله المرهق في بناء بيوت الطين دون ان يجني الكثير ،المهم ان يشكومن شيء .. ودائما بصوت عال !
    كنت ازور ابن خالي البكر صالح كلما مررت بحافة حسين حيث يكون جالسا على كرسي يراقب حركة المارة ويرد على سلام الجيران حتى تناديه زوجته تدعوه للطعام او لجلب شيء من السوق ..ولم اكن اساله عن ابيه ، خالي سعيد ، كنت اعلم ان علاقتهما متوترة دائما ، اجلس معه بعض الوقت ثم أودعه وانصرف واتركه في صمته واذهب إلى وجهتي . 
   انقطعت زيارات خالي سعيد لأمي ، فعرفت انه مات ، ولم اعد اسمع اخبارا عن إبني خالي ادريس وعمر وامهما جمعة .
  عاد خالي سعيد إلى الطين الذي جاء منه وسلالته من بيوت هذا التراب ، والنسل الذي ذراه لايزال هناك يتناسل في مكان ما يحمل جينات آل باشطح والتغريبة الحضرمية التي لاتنتهي .