أنجزت تسجيل حلقاتي الإذاعية باكرا، وتوجهت إلى محطة الحافلات. وصلت هناك والعم علي كعادته يمارس التسول، ونعيمة كذلك تجلس على الرصيف تبيع المساويك، والطفلة راندا توزع ابتساماتها الصفراء، والمستنقعات ماتزال تنفح روائحها الكريهة، وأكثر الاشكال تكرارا النازحات من إقليم الحرب ، فقد كانت مناظرهن تثير في نفسي الشفقة ، وكنت أدفن رأسي في الجريدة، واختبيء من ضجيج أبواق السيارات.
ورن جوالي، فأجبت مهندسة الصوت بمبنى الاذاعة المستشارة رانيا، كانت تتحدث معي عن حلقتي السابعة، وماطرأ عليها من تغيير في المقدمة الإذاعية، وكدت اعود من حيث أتيت، وقد خفتت الحركة واعتلت الشمس كبد السماء. وكانت تتناغش في بالي صور شتى عن النازحات، وقد علقت بفكري تلك النازحة التى اخذت تتودد إلى ذلك الشاب، الذي نزل من سيارته، وناولته ورقة التسول، فلم يأبه لها، ودخل كافتيريا الامل، وقد غصت بالشباب من دوي الحلاقات والقصات الحديثة.
 وقد داهمتني فكرة الحلقة القادمة ،فعكفت على الجلوس في طرف الشارع، وعملت فكري..
كانت السيارات تمرق من أمامي مسرعة، وشرفات العمارات مفتوحة ، وكنت التقط حديث الجارات من الشقق السفلى، واغوص في تفاصيل حلقتي الأسبوعية، وقد مر أمامي نفر من الصبية، وهم يصفقون ويرفعون أصواتهم.
كانت المدينة تذهب في فجاءات متعددة، وكنت تلمح بين الفينة وأخرى النساء الخارجات من أسواق المول، وهن محملات بالاواني المنزلية وملابس الاطفال، وقد وقفت تحت عمود النور فتاة شابة مافتئت تنظر إلى جوالها بين حين وآخر، ومساحيق التجميل تبرز المزيد من بهجتها، وقد أفضت بها السبل إلى ركوب دراجة نارية، وانا بين مصدق ومكذب.
 بيد أن هذا المظهر جعلني اسرع الخطى للحاق بالحافلة، ولما دنوت من المحطة، رأيت تجمهرا حول حافلة صغيرة بداخلها امرأة، كانت الغيوم تملأ السماء، وطالبات المدارس عائدات إلى منازلهن، اقتربت من الحافلة، فقال لي أحدهم: لاتلمس شيئا هذه المرأة مشتبهة. ثم تفرق الناس من حولها، وساد المكان ذعر مميت، وتوجهت من تلقاء نفسي إلى طرف الشارع، اكمل حلقتي الثامنة، وانا ابحث عن تلك النازحة،التي توددت إلى ذلك الشاب، وأكاد ابعد عن هجسي، أنها نفسها المشتبهة .