بحرا ، سافر ..وبحراعاد بأمي واخوتي الصغار .لايغير ابي عاداته في السفر ،حتى لوكان معه زوجه واطفاله .
وأمي اسم على مسمى . تحب ابي..
تحتويه..ولاترفض له طلبا .. 
   شديد التعلق بأمي ، اول مرة سافرت فيها بدوني اصبت بحساسية شديدة ، وبحكة في كل جسمي .ابي بدل ان يأخذني إلىطبيب امراض جلدية ، اعطاني قطعة نقدية من النحاس وقال لي : 
  - بللها بلعابك ، وافرك بها جسمك ! 
    بت الليل كله ابلل القطعة وافرك بها جسمي ، دون جدوى إلىان نشف ريقي ، واصاب يدي الخدر ، واستلقت إلى جانبي .. 
   لاادري متى نمت .
    في الصباح ، استيقظت وقد اختفى كل أثر للحساسية ، لكن حزني على فراق امي لم يختف.عرفت سبب مرضي ، ولازال  ملازما لي منذ ذلك الحين . 
   سعيد بمجيءأمي..بقية اخوتي فاطمة 
عبد الكريم ، زينب ، وعلي .احبهم عندما يلعبون ،يذاكرون .
هذه الوجوه التي لااستطيع تحويل نظري عنها ..أصواتهم عندمايضحكون .كل واحد منهم فيه شيء مني ، ونظراتهم تقول كل شيء .لكن كيف افسرتعاستي في نفس الوقت ؟.
  مازلت بدون عمل..اساعد ابي في الدكان - الكانتين ..اعيش في جرابه..احب ابي   حبه لعمله ، لكن ليس بوسعي ان استمر في ذلك إلى مالانهاية .وهذا ليس ذنبه ، فهو يريد لي الأفضل .
   عمل الدكاكين مهنة مثله مثل اي عمل ، لكنه ليس وراثة.. 
  يوماما إذا ماصرت كاتبا كماتنبأت لي جدتي " ابوللو" التي كانت تحكي لي الحكايات صغيرا ، قد اكتب عن الشحاري والشحارية وعملهم المرهق في الدكاكين ،
لكن لا اتصورها مهنة لي .. 
خلال هذه الفترة ، لم اعد راغبا في شيء ، اصابني القلق ، الإنهاك ، التوتر ،التعاسة ، وينتابني شعور بأن الحياة لامعنى لها . لم تعد بي رغبة في البحث عن عمل ، ولا في القراءة ، وفتر حماسي للكتابة كما كنت في السابق ، أوان اصبح كاتبا..وبت اشك في نبؤة جدتي بأنني سأكتب الحكاية ذات يوم ..خرافة عجوز ارادت ان تفرح حفيدها بشيء كما تفرحه حكاياتها الخرافية ، ولاوجود لحلم أهتم به واسعى وراء تحقيقه .. 
مرت اسابيع، ممددا فوق فراشي ..اتطلع إلى السقف الخشبي كالهرم المقلوب..امي تحاول ان تعرف مابي ، تروح وتذهب حتى لاارى دموعها ..وابي في صمت يزداد قلقه ويكبت غضبه ..
كدت افقد الثقة بنفسي او انني اصلح لشيء ..

                           ( 2)

    تعرفت علىإمام المسجدالذي اصلي فيه. جرت بيننا حوارات حذرة . احيانا تضع الحياةفي طريقنا أشخاصا نرتاح لهم اويرتاحون في الوقت المناسب ..يجمع بيننا مشترك مامع هذا الآخر ،آخر ماكنت اتوقعه أن يكون مايجمع بيني والإمام 
 ...القلق! 
لم يخطر في ذهني لحظة إنه يعاني مثلي من توتر ، واكتئاب..لعله كان في حاجة إلىمن يتشابه معه ، يشاركه همه ،فوجده في شخصي ، كماوجدته : الايضعون اصحاب المرض الواحد في نفس العنبر ؟
  ربما كان مثلي يعيش مشكلات الحياة ! لديه اسئلة لايجد لها أجوبة . 
لااظنه يعاني مثلي من البطالة .. 
  يقدم الشيخ احاديث دينية من إذاعة عدن ، والتلفزيون ولاشك انه كان يتلقى أجراََ لقاء ذلك ، بالإضافة إلى اجره من وظيفة الإمام ..
  كنت اعتقد ، ان رجال الدين لايصابون مثلنا بالقلق والتوتر . يتمتعون بسلام النفس..يملكون من اليقين ..القرب من الله..بالصلاة ،الصوم ،الزكاة ،الدعاء ، والتسبيح طوال الوقت..قيام الليل .. الدعوة إلى الصلاح واتباع سبيل الرب ، مايجنبهم ذلك .
   ومع ذلك ، علىقلق ،كان الشيخ مثلي ..  ولم يك يكبرني إلإ قليلا ..
 مستقبل البلد كله مقلق ، على كف عفريت كما قال اوقلت ..
    منذ الإستقلال ، وحتى قبله والصراع محتدم ،لااحد يدري اين سترسو سفينتنا
..على اي جودي.. وهل ستتسع من كل زوجين اثنين كما سفينة نوح ؟ 
  وابنه ؟ 
  هل يلبي نداء أبيه هذه المرة ويركب معنا ؟ او سيبحث عن جبل يعصمه من الماء ، ويصر ان يكون عملا غير صالح ! لايمكن مجاراة العند البشري ، يبحث عن جبل يأويه ! ولاعاصم اليوم من أمر ربي ! 
  ذات بحر .. سخر الله، لأبنائه المساكين خضرا يخرق السفينة حتى لا يأخذها الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا ! 
   كم من السنين ، سننتظر حتى يبعث لنا خضرا آخر ..قبل ان يتسبب ابناء السفينة في إغراقها ، او يأخذها الملك ؟!  
  وكم سننتظر ..الخضر حتى يقيم جدار اليتيمين ، قبل ان يتصدع ، ويستخرجا كنزهما ؟! 
سيطول انتظارنا وينهار البيت ، فلا كنزا نستخرج ، ولاخضر يأتي ...
   كان الشيخ شمس ، على يقين ، بأن عواصف كثيرة ستأتي،وان سفينة نوح صارت من التاريخ . فلانوح ننتظر ، ولاخضر ..لن ينجو منا احد وسط هذا الجنون ؟! 
  فعلا ، علينا الاعتراف بذلك ، وعلينا انقاذ سفينتنا قبل ان يجرفنا الطوفان ..
  او كما قال ذات مرة : 
- اخشى ان نكون كلنا اولاد القاتل ..! نحمل وزر القتيل ولانجد غرابا يدلنا كيف نواري سوءات اخوتنا ، لانهم حينها سيكونون كثر ..اكثر مما يتسع لهم قبر واحد ! 
  سعدت بالتعرف إلى الشيخ ، لكن اراءه عن السفينة والطوفان ، واولاد القاتل ، والمقابر الجماعية افزعتني ...
   ذات يوم جاءني الشيخ، وضع بين يدي مغلفا بعنايةبقماش ابيض كالذي تغلف به" الختمة " للحفاظ عليها من الأتربة . 
   وقال لي :
    - أقرأه ، لقد افادني كثيرا ..وسيفيدك .  
   حاولت ان انزع المغلف . 
   منعني بيده ، قال لي : 
  - لا تفتحه الآن..عندما تكون وحدك ! 
    زاد هذا من قلقي،لم اعداستطيع السيطرة عليه،ولا على فضولي . 
   في البداية ، من طريقة تغليف الكتاب توقعت ان يكون "ختمة "..لكن عندما طلب مني الا افتحه إلا عندما اكون وحدي وكتمان الأمر بدا لي ذلك غير مفهوم ..لكنني وعدت الشيخ بقراءة الكتاب كما طلب مني ..  

                             (3)
  
   في البيت ،كانت المفاجاة ..لم يكن سوى ( دع القلق وابدأ الحياة ) ل "ديل كارنيجي ". اطمأنت انه لم يكن كتابا سريا لسيد قطب مثلا ..او عن الماركسية يقرأه الشيخ سرا ولايريد ان يفض احد سره ، ويريد ان يضمني إلى إحدىالحلقتين ! 
   لم استغرق وقتا كثيرا في قراءته .. يبدو ان كل جملة فيه كتبت بعناية وعن خبرة حياتية وبطريقة بسيطة وسهلة يفهمها كل شخص..لااظن ان احدا قرأ هذا الكتاب دون ان يقدم له المساعدة ، مازلت انصح كل من يشعر بالقلق ، التوتر ، ان يقرأه كأنه كتابي .. ويكون ضمن مكتبتي اينما ذهبت ..
  الشيء الذي حيرني: لماذا كان الشيخ يحيط كتابا يباع في المكتبات بكل تلك السرية ؟ هل كان يخاف ان يكتشف احد بأنه مريض ... بالقلق ، فيظنون انه مريض عقلي ! او لم يكن يريد ان يعرف احد انه يقرأ كتابالمؤلف امريكي،وهو الشيخ المسلم ، ويلتمس منه العلاج ! 
  قلت له وانا اعيد له الكتاب " 
  - حقا انه كتاب رائع .. لقد افادني كثيرا.
  -  بهذه السرعة ؟
  - نعم .. 
   تناقشت معه،في محتواه والعديد من فصوله..
   حياتي تبدلت منذ تلك اللحظة ..
   صرت اقبل علىالحياة ، غادرت الفراش وحالة الخمول والكسل، وكأن الكتاب زودني بأسلحة للانتصار على قلقي وبت إنسانا آخر.. 
  وجدت والشيخ شمس وصفة لحالتنا .. 
  لكن من ذا يجد وصفة لحالة البلد التي تزداد سوءََ ؟!    

                         ( 4 )
  
  ذات صباح ،بعد ان يئس ابي من حالتي ، قال لي : 
  - البس ثيابك وقم معي ..
  اجبته وانا مازلت تحت اللحاف : 
  - إلى اين ؟
   - نشوف حل لحالتك هذه .. وضعك ماهو عاجبني ..
 - إلى اين ...؟!
   سالت ابي مرة أخرى ..
   - المصعبين !
   - هذا طبيب عظام كما سمعت وانا سليم ، مافيني شيء ..
  واضفت : 
  - لن اذهب إلى اي مكان .
   - المهم باتجي معي والا ...لا ؟
  عندما يقول ابي ذلك ، تكون خطوته التالية ان يحل كمره من وسطه ، او يحل نعاله ويهوي به على اي مكان في جسمي.
حتى الان كان حليما معي وتذرع بالصبر . عندما كنت صغيرا وعصبيا ومتمردا كان يفعل ذلك .. لم يكن ينقذني منه سوى الهروب إلى الشارع ..
  منذ فترة لم يعد يلجأ لهاتين الوسيلتين لإعادتي إلى جادة الصواب..كبرت ،  ويعرف انني كبرت على الضرب..وليس على ابي..فهل يفعلها الان ؟
    اقنعتني امي بالذهاب معه ، لاحظت هي الأخرى ان صحتي ليست على مايرام ، ولو انها لاترى بي علةمفهومة .
وكانت قلقة ان يصيبني مكروه إذا بقيت على هذه الحال ، فتخليت عن عنادي ..
                           (  5)

  المصعبين ..طبيب شعبي عجوز ، اسمر ،  نحيف ، وله لحية مشذبة، اكتسب شهرة واسعة في عدن كمجبر عظام . لايشبه اي طبيب ، ولاعيادته تشبه عيادات الاطباء .
لم يدرس الطب ، ولكنه اكتسبه بالخبرة .
 يقال ان البريطانيين اعترفوا له بالمهارة  وسمحوا له بممارسة المهنة ، وان اطباء العظام الانجليز في عدن كانوا يحيلون إليه الحالات التي يعجزون عنها ..المرضى يأتون إليه من احياء المدينة ومن الأرياف فينالون الشفاء على يديه..لايطلب اجرا محددا لعلاج مرضاه ، بل يرضى بما يجود به المريض اوذووه ،قليلا كان ام كثيرا .. لهذا كان الله يبارك عمله ويجعل شفاء الناس على يديه ..  
                              (6)
 
 القى المصعبين نظرة على وجهي بعينيه الذكيتين ، واستمع إلى شرح سريع من والدي عما اشكو منه .. 
  طلب مني ان اكشف عن بطني .. تحسس موقع الصرة وضغط عليها باصابعه ..     شعرت بالم حاد لم اكن اعلم بوجوده  ..
  أمرني ان اتمدد على القعادة الخشبية ، قطعة الأثاث الوحيدة الموجودة في تلك الغرفة، تشبه اي شيء إلا ان تكون عيادة تجرى فيها جراحة.. لم تكن تشبه في شيء عيادة طبيب عظام  معترفا به .. العيادة نفسها كانت في حارة فقيرة ، 
تبرك امامها جمال وتفوح منها راثحة بول الإبل . 
  تراءى لي انني داخل لحظيرة جمال لالعيادة طبيب بكل تلك الشهرة التي يتحدث بها الناس . 
 وكانت مليئة بالمرضى من كل الأعمار ..
  وضع اسياخا حديدية رفيعة على موقد مشتعل بالجمر حتى احمرت .. وضع احد الاسياخ اسفل صرتي. ، التقت النار باللحم حتى شممت رائحة جلدي المحترق . لم تصدر مني آهة واحدة ، اتبعه بسيخ اخر ، فوق صرتي ايضا دون ان اتأوه.. اماالثالث فكان اعلى الثاني ولكن بالطول دون ان يسمع لي الشيخ مصعبين صوتا . حينها قال لي  وهو يأمرني بالنهوض : 
-  قم ياابني .. بارك الله البطن اللي حملتك ..
   تلك الدعوة لأمي ،كانت كافيةلأن ازهو بالفخر ، انسى اي الم شعرت به ، وتلك الأسياخ الحارقة تنتهب بطني وتحرق جلدي ..
مرت حتى الآن اكثر من خمسة عقود .. واثر تلك المياسم كالوشم تزين بطني  .. علامة المصعبين المسجلة ، ودعوة الشيخ ، لأمي  لاتمحى ولاتزول ! 
   أكان ذلك قبل ان التقي الشيخ شمس 
 ويهديني وصفة كارينجي في هزيمة القلق ..
   لست ادري ايهما كان الأسبق ... ..
 نار المصعبين..
 ام كتاب ديل كارينجي ...؟!