وجدت عملا في حي الرشيد ، بين المطار العسكري ، ومطار عدن الدولي ، في خورمكسر .
 كانتين اخر ..رست مناقصته على نفس القائد الذي يدير أبي كانتينه في معسكر عبد القوي بالشيخ عثمان . يبدو ان عمل الشحاري لايريد ان يفارقني ، حتى لو ارتدىثوبا انجليزيا !
جدنا الحضرمي الأكبر عبد الرحمن بن خلدون هومن قال إذا تعاطى الحاكم التجارة فسد الحكم وفسدت التجارة ! ويبدو ان واضع علم الاجتماع لايزال يصدق بعد كل هذه القرون ..
   خلف صرامةالقائدالعسكريةكانت صفات إنسانية .. 
  بعد ايام فقط ، من عملي لديه، اخذني  لحضور وليمة غذاء في منزل قائدالجيش حسين عثمان عشال ..
  في منزل عشال دفعة واحدة !
فاجأني الرجل ، ببساطته ، تلقائيته : احقا هذا حسين عشال الذي كان اسمه يتردد في صدارة الأحداث كقائد لإنقلاب 20 مارس ..؟!
  من قيل انه أمر باحتلال الإذاعة ، وحملةالإعتقالات التي شملت عدداكبيرا من قادة الجبهة القومية وفصائل سياسية أخرى ؟! 
     لم ارسوى عينين قلقتين في وجه ذكي ..
 كان قد حل بزة "العقيد" ، ولبس الملابس المدنية هو وضيوفه إذ كانوا قادمين من صلاة الجمعة .. 
  في تلك اللحظة ، رأيت أمامي رجلا مترعا بالإيمان ، يتصف بكل مافي البدوي من كرم ونبل وشجاعة ، وكل الصفات التي اطلقت عليه من خصومه لاتتناسب معه ..لكن لم اره ببدلته العسكريةورتبة العقيد ..
    ربماحينها كان ليبدوشخصا آخر !

                               ( 2)

 لم يفرح الناس كثيرا بالاستقلال ..رحيل قوات الاحتلال ، مازال في اذهانهم بعد ، هول الحرب الأهلية ..الارض المخضبة بالدماء..السماءالباكية..السنونو التي هاجرت ، والبحر الذي هجرته المراكب ، وعدن التي لم تعد كماكانت "هونغ كونغ العرب " ، حتىفوجئوا بقوات الجيش تنزل شوارع عدن الحزينة وتبدأ حملة الاعتقالات .. 
   على ماذا يتصارعون ؟ 
   على من يرث الخراب !
   قوات من الجيش تطارد الهاربين إلى "مشقاص" ، وتعتقل عددا منهم ،كنا نتابع التطورات ، يساورنا القلق على الثورة ،  ونخشى عليها من مصير ثورات سبقتها .. كان طبيعيا ان تشمل حملة الاعتقالات حضرموت فمنها خرجت الشرارة البيروتية لتجعل منها " كومونة باريس " ..! 
 المؤتمر الرابع في زنجبار تبنى الكثير من تلك الأطروحات التي استدعت قلق  وخوف الجيش وكانت الدافع ، ربما ، للإنقلاب ! 
    منع الرئيس قحطان إستيلاء العسكر على السلطة حين رفض ان يلعب دور المحلل .
   عاد الجيش إلى ثكناته ، وافرج عن المعتقلين .
   وتنفس الناس الصعداء لكن إلىحين .
 رحلت الأزمة ولم تنته ..
 ابقت النارتحت الرماد.. ثم عادت للإشتعال ..
   منذ البداية ، لم يكن الطرفان يثقان ببعضهماالبعض ، يتوجسان ويتحينان الفرص ..
وقف الجيش مع الجبهةالقومية .. والآن. كان عليه ان يقف مع نفسه ..
   استحضرت في ذهني ، ايام الحرب الأهلية ، لا احد يشك بأنها بفعل فاعل ، وخارج نطاق اهداف الثورة ، وجدت الجبهتان اللتان تقودان الكفاح المسلح نفسيهما ، تخوضان حربا تتعارض مع إرادتهما ،وإرادة الشعب ، وكل ذلك من اجل الضفربالسلطة خلال الفترة القصيرة التي تسبق الإستقلال . 
لم يحسم الأمر إلا بتدخل الجيش لصالح الجبهة القومية وهزيمة جبهة التحرير والتنظيم الشعبي ، حسم معركة العاصمة ومن يستلم السلطة ، فيماظل الاثنان يتبادلان مخاوف صارت حقيقية وفعلية بعد الاستقلال ، عندما بدأ تسريح كبار ضباط الجيش والأمن العام ، وصدرت تصريحات مستفزة يعتبرهما من بقايا الإستعمار وقوة معيقة للثورة .
  
                               ( 3)

    يبدو ان الحرب الأهلية ، التي اندلعت قبيل الاستقلال ، قد رسمت اتجاهات الأحداث القادمة . راهن المراقبون علىان يتحرك الجيش باعتباره القوة القادرة
على الوقوف والتغلب على الجبهتين معا إذا اندلعت الحرب الأهلية من جديد .  تغلب على جبهة التحرير ..وانتصرللجبهة القومية ، وعليه ان ينتصر عليها !
  يرسم الصحافي اللبناني السوري الاصل رياض نجيب الريس الذي زار عدن قبيل رحيل الإنجليز ، وعشية الحرب الأهلية صورة قاتمة للوضع كماشاهده : 
" بنادق، مدافع ، اسلاك شائكة ، متاريس ، نقاط تفتيش عند كل منعطف . دوريات عسكرية ، انوار كاشفة في الليل انفجارات متوالية طوال الاربع وعشرين ساعة ، قنابل لم تنفجر امام البيوت والفنادق ، رصاصات تبحث عن تسديد حسابات مستحقة ..كل هذا جزء من الحياة اليومية في عدن .فلامكان للتفاؤل . وحده المخرج السينمائي الفريد هيتشكوك يستطيع ان يعطي الرعب في عدن معناه الحقيقي !! "
  هل كان الريس ، يصف الوضع في عدن عشية الحرب الأهلية عند الاستقلال ،ام ماسيحدث فيها بعد ذلك ؟ عند كل صراع وحرب أهلية ؟
 اليس هذا ماحدث منذ ماقبل الإستقلال وحتى اليوم ؟! 
   المشهد المرعب،لم يكن يحتاج إلى هيتشكوك ، بقدرماكان يحتاج لشكسبيرالذي وصف عملية إغتيال يوليوس قيصر بانها اقبح عملية اغتيال في التاريخ .فماهواكثر من اغتيال شعب ، قبحا وبشاعة من ان يتفق الجميع على ان يقتلوه في ليلة فرحه ؟! .

  "الدوق الحديدي" تورنبل، سلف المندوب السامي السيرهمفري تريلفيان ، قال للريس حين سأله عن موعد رحيلهم : ( الجلاء العسكري اسهل من الجلاء السياسي ) 
فماذا كان يقصد ؟ وماهي تلك الترتيبات " السياسية" التي قام بها قبل جلاء قواته من عدن ؟ 
   مالم يفصح عنه ، قاله ديفيد روز" الموظف " في المندوبية السامية البريطانيه الذي رافقه لمقابلة المندوب السامي : 
( اذا عدت إلى عدن عند موعد الإستقلال قد لاتجدفيها من يستقبل الصحافيين لأنها ستكون مشغولة بين الفرح بالاستقلال والبكاء على ضحاياه ) 
واكد له وهو يعيده إلى فندق كريسنت من مقابلة تورنبل  : 
    ( لاتخف ، صدقني سنجلوعن عدن ،كما انسحبنا من مناطق اخرى كثيرة قبلها، وسنترك الرمال العربية وراءنا تطالب بحصتها من هذا الجلاء )

                            ( 4)
   هذه المرة كان يضحك . ومن هذا الضحك تحديدا ، يمكن ان نرى كل مافي البريطانيين من خبث وسخرية ولؤم لم تكن تنقصه الصراحة . 
  فهل كان ضحكه لأنه كان يعرف صورة الأحداث القادمة بعد رحيلهم ؟ 
وكأن الجميع ، الانجليز ، وبعض قادة الثوار ، والعقداء ،متفقون على هذا الضحك ؟! 
  لااحد يمكنه فهم الدلالة السحرية لهذه الدائرة ، فلايمكن ان تتحرك الأحداث بفعل الصدفة ، لأننا نعيش في عالم تدور فيه كل الأشياء في دائرة ! 
     مرة اخرى ، هل كانت مجرد امنية بريطانية ام ماخططوا له ، قبل رحيلهم الحتمي من عدن ؟ واراد ان يهمس به " الموظف " البريطاني للصحافي اللبناني - السوري .

                             (5)
      
   انطلقت رصاصة اطلقها احد الوطنيين واصابت ديفيد روز في ظهره واردته قتيلا امام مدخل فندق كريسنت في التواهي ، في الأول من اكتوبر ، قبل شهر واحد فقط من رحيل قوات بلاده من عدن ، فلم ير 
ماخططت له حكومته يتحقق ، لكن" الرمال العربية المتحركة بدأت تطالب بضحايا من عندها " حسب الريس  " وقد اشعل البريطانيون الفتيل قبل رحيلهم . وبدأ الانفجار قويا وعنيفا داميا ، وهو متوقع ومستمر . الجثث في الشوارع تنهشها الكلاب ولامن يدفنها   " .
 مرة اخرى هل هذا مشهد الحرب الأهلية بين ج.ق .وجبهة التحرير ، ام مشاهد كل الحروب الأهلية التي جرت بعد ذلك في عدن ، بما في ذلك مايجري اليوم ؟ وماهي حصة الرمال العربية من جلاء البريطانيين من عدن ؟
  لم يستمر ضحك ديفيد روز طويلا ، لكن دماء غزيرة سالت تحت الرمال ..ولازالت عدن تدفع حتى اليوم نصيب الرمال العربية من ذلك الجلاء ...
 ماحدث ليس كله مؤامرة خارجية ، وإن لاينفي وجودها ، فلابد ان يكون للمتصارعين المحليين نصيب ! 


   في البدء كان المطلوب تصفية جيش الجنوب العربي، وعندما تحقق ذلك كان المطلوب تصفية الجيش الجنوبي العقائدي الذي بنته اليمن الديمقراطية ، وقد قالها صراحة مسؤول اميركي من وزارة الخارجية الأمريكية في محاضرة امام كوادر الخارجية بصنعاء عقب حرب 1994 ضد الجنوب ، ان من بين اسباب تأييد بلاده لعلي عبد الله صالح في تلك الحرب تدمير الجيش "العقائدي" في الجنوب . 
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية لم يكن مسموحا ان يبقى جيش من تلك الحقبة في جنوب الجزيرة العربية ! 

                            (  6)
 
    في هذه الرقعة الجغرافية ، كان يدور التاريخ ، تاريخ الحروب الماضية من اجل عدن ، وتاريخ الصراعات الحاضرة والمستقبلية ..ايضافي وعلى عدن  .
كلهم مروا من هنا ، الرومان ، والساسان ، والبرتغاليون ، والأتراك ، والانجليز . تاريخ الممالك ، والسلطنات .. وتاريخ الدول والقبائل.. وتاريخ الصراع الدولي والحرب الباردة .
 وحدهم " الرفاق"  لم يقدروا اهمية عدن التي بين ايديهم ..او انهم كانوا مجرد بيادق في لعبة الامم ؟!
  البريطانيون الذين كانوا آخر من احتلوها لأكثر من قرن وربع القرن لم يريدوا ان يورثوا لعدن مؤسسات حكم ديمقراطية قوية ، ولاجيشا قويا ، يهدد مصالح الغرب في الجزيرة العربية ، بل تركوها مفتوحة. لكل الصراعات الدموية القادمة ...
تاريخ من الالم المستمر في عدن الحزينة .
لافسحة لفرح..اووقت لنشوة نصر..

                              ( 7)
 
 والآن كنت اتناول الغذاء مع قائدالجيش العقيد عشال في بيته دون ان اكون مدعوا منه، ودون ان تكون بيننا سابق معرفة.ولعله تساءل بينه وبين نفسه من يكون هذا الضيف الشاب الذي يجلس إلى مائدته ، لكنه كما هوالكرم البدوي المتاصل   اخذ يقدم لي قطع اللحم بنفسه ،ويحثني على الاكل عندما لاحظ حيائي وهوحياء
ملازم لي حتى اليوم .
   كانت المائدة على الأرض ..وفيها لحم كثير .. 
   ولعلني كنت المدني الوحيد !
      حين حصلت احداث مارس ، كنت لازلت في حضرموت اتابع الأخبار من الراديو ، ولم يكن يدور في خلدي انني سأتناول طعام الغذاء في اي يوم مع قائد الجيش وثلة من اصحاب " النجوم " العقداء ...
  مفأجاة لم تكن في الحسبان ، ولاادري لماذا لم اخف على نفسي ..
  لم استوعب ان هذا هو رجل الإنقلاب .. لم يبد لي طامعا في الحكم وكانت لديه كل القوة لأخذه .
 ..بدا لي رجلا متدينا لم يستصغ شعارات اليساريين ، دون ان يكون يمينيا ..واراد ان يحافظ على رأسه قبل ان يتحول إلى منفضةلرماد سجائرهم ! 
صار اللحم الذي امضغه ثقيلا على معدتي اكثر فاكثر إلى ان عجزت عن الاكل .. وكان لايزال على المائدة لحم كثير ..
  مازالت الخراف تذبح والرجال يقتلون ..
 
 
     القائد الذي اعمل عنده ، واثق من نفسه ، يتحرك بدون حراسة ، يأخذني معه للتسوق في مابقي من اسواق التواهي الراقية ، يستقل عربة جيب مكشوفة ، و جنود الشرطةالعسكرية 
عندما يرونه يقفون في انتباه ويؤدون
 له التحية . 
كان الضبط والربط والتقاليد العسكرية الصارمة لاتزال ملازمة الجيش .
    
لكن كل ذلك ، لم يستمر طويلا.. الرغبة في الوصول إلى الهرم الأعلى ، كانت قوية ، والصراع هذه المرة كان يدور بين اقطاب الجبهة القومية انفسهم ، بعد ان هرب قادة ومقاتلوا جبهة التحرير إلى الشمال وإلى منافي أخرى ، ولحق بهم قادة عسكريون ومدنيون سرحوا ، وهيأت الأطروحات الإيديولوجية ساحة الصراع ، وكل يحيط نفسه بكلماته الخاصة عن يمين ويسار ، ومايميز احدهما عن الاخر ليس الولع بالكلمات ، بل النتيجة المختلفة لهذا الواقع ..
 
                              (8)
 
    كان الناس ، يتوقعون امراما يقع ...
  المذياع يبشر باعلان "بيان هام " من الرئيس ، لكنه يذيع بدلامنه بيانا من القيادة العامة .
  اختفى الرجل الذي كان يهدد الضرب بيد من حديد . 
  بدأعهد جديد ، بقيادة جماعية وانتهاء "حكم الفرد " .
  والمشهد المربك ، انتهى بهزيمة " اليمين " وانتصار " اليسار " وبوعد باقامة جنة الفقراء ..
  . تبدلت الألقاب ، الأسماء، المناصب ،الرتب ، وشاغلو الوظائف العليا .
 اختفت " النجوم" التي كنت اتناول معهم طعام الغذاء ..
 
    اغلق الكانتين ، وضاعت الوظيفة..
وكنت الشخص الذي عليه ان يبحث عن عمل مرة اخرى ...