توطدت العلاقة بيني وبين (امين رضوان) ، وبعد فترة صرنا صديقين .
 لم تكن له صفةرسمية في الجريدة لكن كان بمثابة الأستاذ لي والصديق للجميع ، تعلمتُ منه الكثير ، ومن خبرته بدون حدود !!
 جاء من القاهرة حيث كان يناصر ثورة الجنوب إلى عدن عشية إستقلالهاالمجيد ، وظلَ يناصر قضايا اليمن بدون حدود أيضا . 
  استقرَ به الحال في جريدة (14 اكتوبر) دون مُسمىًّ وظيفي ، وفي شقة صغيرة في ساحل ابين كانتْ لاتخلومن هجوم أصدقائه الصحفيين عليها في كل وقت!! (عمر الجاوي وفضل النقيب والقرشي عبد الرحيم سلام ومحمد المساح) عندما يأتي لزيارة عدن من صنعاء ،وكذلك الراحل  (محمد عبد الله مخشف) وآخرين !!
  لم يكن يضيق بمجئنا،وكان قلبه الكبير يتسع لنا قبل ان تتسعَ لنا شقته الصغيرة!! ونفس الأمر في شقته في القاهرة ، ظلتْ مفثوحة ، كما ظل قلبه  لأصدقائه عندما يأتون لزيارة مصر!!  
  تسألُ المصريين إذا كانوا يعرفون عنوان( امين رضوان) فيجيبونك:
 - مين ..اليمني ؟
  - لا . المصري !
  -  لانعرف إلا امين رضوان (اليمني)!!..
 انه حتى في مصر ، وحتى بعد ان كوفيء جزاء سمنار ، على حد وصف فضل النقيب لصديقه واستاذي امين رضوان الذي لفقوا له تهمة( التجسس )في عدن التي احبها من قلبه وناصر ثورتها وكل قضايا اليمن ، فان هذا الصعيدي لم يَتبْ ، ظلَ على حبه لعدن واليمن إلى درجة ان المصريين لايعرفون إلًا انه يمني لأنه لايتكلم إلاعن اليمن ، ولايجد متعته إلاِّ في وجود الأصدقاء ، وأغلبهم من عدن التي لم يحب مدينة كما احبها!! 

(لكنَّ شيئاً ما سيحدث

               
                            (  2)
 
   بين رصيف مقهى شعبي يحتسي فيه الشاي ، ويراقب منه الشارع على اِتساعه وحركة المارة ،ووجعاً يقاومه بالشعر كان تعرّفي على( الجنوبي) 
  قال وهو يعرفني إليه : 
  - هذا الصعلوك (امل دنقل)!!
  ابتسم (امل)،
  قلت فيما يُشبهُ مجاراة للظرف المصري المعروف : 
- وهل يُخفىٰ امل؟!! 
  واضاف (امين رضوان ) مُكمِلاً التعريف :
 وهذا (محمد بحاح ) صحفي من عدن،   وتلميذي .
  فعلق امل : 
  -.يعني بلدياتك !
  فضحك( امين رضوان) وقال : 
  - وبلدياتك ايضاً!!،وأضاف: -على فكرة هو يحبك ومن المعجبين بشِّعرك!! 
  كنتُ ومازلتُ احب هذا ( الجنوبي امل دنقل) ، قرأت له الكثير من شعره ، كانتْ قصيدته (لاتُصالح ) مطبوعة في ذاكرتي  وتثير الكثير في مصر،وفي كل مكان في الوطن العربي ، ويتداولها الناس ك (منفستو) رفض للصُلح مع العدو الصهيوني!! 
   إذا كان ثمة مايُوقظُ الأمة ويُخيفُ السياسيين المتخاذلين والأعداء على حد سواء فهو الشِّعر !!
  هذا الشاعر العظيم اختارَ ان يجلسَ في رصيف مقهى شعبي في مواجهة الشارع والناس!!
كان جالساً هناك يأكلُ السرطان من جسدهِ لكنه لايقدر على هزيمة عقله ولاشِّعره الذي سيُخلُد من بعده كما لو كان مكتوباًللزمن القادم!!
  إن شعره منبع مباشر لخياله ، جذوره تمتد إلى طفولته ، تلك الطفولة في قرية صعيدية مطبوعة بالفقروالمأثرةبحياة
الارض الوطن والإنسان والافكارالعظيمة!! 
    بعض الشعر ليس ككل الشعر ،وبعض الشعراء ليسوا كباقي الشعراء !!
  (وامل دنقل )شاعر عظيم ابقى حياةً من ان يهزمهُ مرض في غرفة(8)، او كما قال( احمد عبد المعطي حجازي) :ان( امل) يقاوم المرض بالشّعر  
 
                            (  3 )
  
في شتاء قاهري ،و في شقتهِ المُستأجَرَة في شارع متفرع من شارع سليمان جوهر (شارع المحلاوي الشهير بالدُّقي ) كنتُ وابن عمي الإعلامي الشاعر(ناصربحّاح) !!
  قلتُ له :انني حظيتُ برؤية (أمل دنقل) مرة واحدة في مقهى قاهري،وكان لقاء يتيماً لم يتكرر ، لكنه عالقٌ في الذاكرة رغم موت( امل دنقل )منذ 36 سنة!!
   أبدىٰ (ناصر )اسفهُ لأنه لم يُتحَ له لقاء(دنقل) !!
   لكنهُ كتبَ عنهُ،بعد أن قرأهُ كثيراً -حَدَّ الإدمان،كماكان شديدَ الإعجابِ بكتاب (الجنوبي )الذي كتبتهُ الكاتبة الصحفية :(عبلة الرَّوِيني)الزوجة، والحبيبة المثالية (لأمل دنقل) التي فُجِعتْ بموته كما لم تُفجعْ امرأة بفقد زوجها وحبيبها ، وكتبتْ عن الجنوبي وعن شعره كما لم يكتب عنه احد . 

                          (4 )                     

  يمكن للعاشق ان يجلبَ الفجيعة لحبيبته إذا فضلها على الكِتَاب !! تَغيرُ المرأة على الرجل من اثنتين:( القراءة والمرأة الأخرى)  لذا لاتقرأ كتاباً في حضرتها ، ولاتنظرْ إلى أخرى بوجودها ، وإلا اعتبرتكَ عدوها!! هذا كثير على امرأة تعتبرك حبيبها،( وعنترها ):
   ويَكتبُ (ناصر)عن هذه التجربة من واقع حياته : 

 (**في الظُهْر:
كُنتُ أوشكتُ علىٰ اِنهاءِالقراءَةِ العشرين لكتابِ(الجَنُوبِي) الذي كَتَبتَهُ (عَبْلَة الرَّويْنِي) عن الزوجِ والحبيبِ، الشاعرِ الاستثنائي (أمَل دُنْقَُل)!!
  @هِيَّ كانتْ كَفَرَاشَةٍ تُبْهِجُ قَلْبِي، وهيَّ في خَطْوها تَحُومُ حَوْلِيْ

جِيْئَةً،وذَهاباً، تُؤدِي طَقْسَهاالعاطِفيَّ الجَمِيْلْ، 
 وَوَلَهَا الوِجْدانيَّ اللذِيْذْ
تَنْظُرُ إليَّ،وعلىٰ مَحَياها، 
وفي عَينِيْهَا، وبيْنَ شَفَتَيْها ذاتُ الكلمةِ،ذاتَ الهَمْسةِ،والبَسْمَةِ،والنَغَم:
(أُحِبُّكَ )،يارُّوحَ الرُّوحْ، 
وصَوْتَ صِدْقِ البُّوْحْ!! .
   @في كُلِّ ظُهْرٍ تكونُ مَشَاعِرُها أكثرَ سُخُونةً،وألذَّ مَذَاقاً!!
   في لحظةٍ مامِنْ توقيتِ ذلكَ الوَجْد، سَألَتنِي بِنَبْرَةٍ لاتَخْلو مِنْ غَيْرَةْ؛(ألمْ تَشْبَعْ مِنُ هذا(الجَنُوبِي)، وأردَفَتْ :(أخافُ عليكَ مِنْ بِنْتِ الرُّويْنِي)!!.
  قُلتُ:(أنْتِ عَبْلَتِيْ) 
  @كررتْ كلمتَها الأثيرةْ، وفرشتْ مائدَتَها الوفيرةْ
وأخذتني إليها. 
  علىٰ المائدةِ وجَدتُني مُتْخَمَاً بـتَفاصيلِ حُبِّنَا!!  
  نظرَ كِلانَا إلىٰ كِلينَا، 
قالَ كِلانَا لكِلينَا نَفْسَ الكلمةِ،ومعاً أضفنَا إليها:
(إلىٰ الأبَدّْ، إلىٰ الأبْدّ، إلىٰ
ا
ل
أ
بَ
دّْ.    ) !!      
  ناصر بحاح 
 
                              (5)

 أحرصُ على لقاء(أمين رضوان) كلما زرتُ مصر في شقته في القاهرة . هذه المرة زرتهُ بحضور عمر الجاوي ومحمد مخشف وآخرين لم يكن بيننامصريواحد ،صديقنا
(امين) لايعتبر نفسه مصرياً بل يمنياً اكثر منا جميعاً!!
  بعدسنوات التقيتُ( امين رضوان) مرتين ، كلتاهما في( سورية )..مرة لحضور إشهار (المركز العربي للدراسات الاستراتيجية في دمشق) بدعوة من مؤسسهِ ورئيسهِ( علي ناصرمحمد )، والمرة الأخيرة في منزله في اللاذقية بدعوة شخصية منه ايضاً
   وفي كل المرات لم يُثرْ ماتعرض له في عدن من إعتقال وتلفيق تُهَم ، لكن (فضل النقيب) ذكر ان( امين) اخبره انهم منعوا عنه حتى الماء لأيام ، وانه أُضطر إلى إستخدام (فانلته)لداخلية وشرب بوله!! 
  اِستعدنا ذكريات الأيام الخوالي :عملنا في (14 اكتوبر) في بدايات تأسيسها ، كان( أمين )الأستاذ وكنتُ التلميذ، زملاء المهنة .. واغلبهم من تلاميذه ، شقة
خورمكسر على ساحل ابين ، قريباً من سُّور سفارة الاتحاد السوفيتي ، سيارته ال ( فوكسوجين ) البيضاء ، اول سيارة يمتلكها في حياته !! لقاءنا اول مرة في مقر( اكتوبر-الصحيفة-) في حافة (القاضي )، الغرفة الأشبه بالبُخار ، حيثُ تعرفت إلى بقية الطاقم : (محمدالبيحي
،واثق شاذلي ،عبد الواسع قاسم ، عبد السلام طاهر ،محبوب علي وصالح حليس).
كانوا في اغلبهم مثلي من الشباب الذين يمارسون الصحافة للمرة الأولى ولكن يتعلمون بسرعة ، ممتلئون حماساً للثورة ومبادئها ، ويبشرون عبر كتاباتهم بعهد جديد من الحرية والعدالةالاجتماعية وبمستقبل زاهر خالٍ من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان !!
 كانوا مجموعة صغيرة متجانسة، والعمل معهم ممتع ، وكنتُ مثلهم اتعلمُ( ألف باء)الصحافة . 
  بعد إغلاق الصحف بقرار جمهوري ، ومصادرة مطابعها لصالح المؤسسة الصحفية الجديدة المملوكةللدولة ،اختفىٰ مالكوها واحجمتِ الأقلام الكبيرةالمعروفة عن الكتابة امابالهجرة او الإنزواء تعبيراً عن موقفهم من العهد الجديد: موقف رجال العهدأيضاًلم يكن ودياً!! 
#إختفتْ صحف عريقة مثل :فتاة الجزيرة، والايام ،والنهضة، واليقظة ضمن ستين جريدة ومجلة شملها القرار فيما يمكن وصفه بمذبحة الصحافة !!
 لكن لم تبقَ صحف معارضة لتصف الأمر كذلك!! 
  مقر الجريدة لم يكن يبعد سوى عدة امتار عن دكان( باحكيم ) ،لهذا بُتُّ اترددُ عليه يومياً،لايوجد مكتب خاص برئيس اومدير التحرير ،اوللمحررين .
الكل يتشارك في الغرفة الوحيدة نفسها!!
#هنا تعلمتُ ابجديات المهنة والعمل الجماعي في الإدارة:( الصحفية ،الاستماع السياسي ، صياغة الأخبار ،كتابةالمقالات ، وتعلم فن الإختصار، إجراءالمقابلات، التحقيقات، الإخراج ، ورسم الماكيت)!! 
@أمضيتُ عدة اشهر تحت التمرين بدون مُسمىٰ وظيفي اوراتب ،لكني كنتُ سعيداً بتعلم مهنة الصحافة عبر الممارسة المباشرةُ، وبنشر مقالاتي وقصصي المذيلة باسمي الثلاثي!! 
#في الفترة الأولى كانوا يخطئون في اِسمي : تارة يكتبونهُ( باحاج) ، وتارة( باحاح) ، لكن في الاخيرلم يعودوا يخطئون فيه!!