إلى قمة الجبل وصلنا لاهثين .   
 البحر يشع تحتنابأضواء المراكب القليلة الراسية في الميناء وأخرى ذهبية لمدينة التواهي ،وهذه المدينةعدن ..التائهة بين اليمين واليسار لايتوه عنها البحر ، يأتي إليها ولاتذهب إليه ولاينحسر ، وإن تاهت عنه السفن لبعض الوقت وضلت طريقها إلى موانىء أخرى مصطنعة ..
    بلغنا منزل عبدالفتاح اسماعيل الكائن في التلة التي يقع عليها مبنى التلفزيون وساعة "بج بن "الصغرى التي بنيت سنة 1890م .ظلت تدق صدى لساعة بج بن في لندن لعشرات السنين ولم يتوقف نبضها  إلابعد رحيل الإنجليز بقليل كأنها كانت تشعر ، او تحن لوجودهم ! 
 هل كان مؤشرا على عطل فني ..؟
  زميلي حسن العدني من حافة القاضي يقول انها مؤشر لتوقف الزمن العدني الجميل !
   كنت وصالح حليس نستهل اولى خربشاتنا في" 14 اكتوبر" و"الثوري" دون توظيف او اجر عدة اشهر . 
اقترح رئيس تحرير( الثوري ) عبد الواسع قاسم ان نكتب رسالةنشرح فيها وضعنا إلى الأمين العام ونسلمه له في منزله . 
   لم اكن اعرف اين ؟ 
 حليس كان يعرف ..
 والآن كنا نقف امامه بعد صعود مرهق ، اما النزول فكان هرولة .
  لم تكن سوى حراسة طفيفة على منزل الأمين العام حيث طلبوا منا الإنتظار .. 
  بعد الإطاحة برئيس الجمهورية الأول قحطان محمد الشعبي في 22يونيو1969 انتخب عامل الخراطة السابق في مصافي الزيت البريطانية ، والفدائي في حرب التحرير ، والقيادي في الجبهة القومية ، والمشارك ضمن وفد مفاوضات جنيف ، والذي اذاع بيان الإستقلال ، ووزير الثقافة في اول حكومة و المثيرللجدل،
أميناعاما للقيادةالعامة ، عضو مجلس رئاسة . لم يطل إنتظارنا حتىجاء شاب ناحل ، شعره اسود فاحم ، يلبس فوطة وقميصا ، عرفت من ملامحه ومن الصور التي كانت تنشر له في الصحف وصوره الثي يظهر فيها في التلفزيون انه عبد الفتاح اسماعيل شخصيا .
 سلمناه الرسالة .. لم يدعنا إلى الداخل لكن ان يأتي بنفسه إلى بوابة الحراسة لإستلام الرسالة كان مفاجأة غير متوقعة ، خاصة لشخص بأهمية منصبه وفي الظروف السياسية التي كانت سائدة .

                             (2)
 
  قالت لي عائدة يافعي سكرتيرةالأمين العام  : 
  - قرات قصتك المنشورة في عدد اليوم .
 عبرت لها عن شكري .كانت عن الصراع الأزلي من اجل الأرض ، اولى القضايا التي حاولت حكومة الإستقلال حلها . 
 قد لايكون لها قيمة فنية لكن بالنسبة لي كان لها قيمة تاريخية وجودية مثلما هي الأرض للفلاح ، إذ كانت اول قصة تنشر لي .
  يقع مكتب عبد الفتاح في المبنى الذي اتخذته القيادة العامة مقرا لها ،في الخليج الأمامي  (القصر السلطاني السابق ) ، يسمى قصر الشكر ايضا بناه السلطان العبدلي عبد الكريم فضل بن علي محسن  على غرار القصور الأوربية الراقية سنة 1912 واستغرق بناؤه ست سنوات ، لكن من الداخل لم  يكن بفخامتها ، وربما تعرض القصر للتخريب . 
  يطل القصر على ملعب "الهوكي" ومنازل "الرزميت "ومن الخلف على البحر وقلعة صيرة ،وقريبا من قصر امبراطور التجارة الفرنسي " توني بس " صديق السلطان 
،وكان السلطان علي عبد الكريم يعقد فيه لقاءاته السياسية ويستقبل فيه كبار الرجال المهمين ، كما كان القصر مقرا لعدد من السلاطين العبادل وعائلاتهم وعدد من الأميرات والأمراء ..
  من مفارقات التاريخ ان قصر السلطان العبدلي سيصبح مقرالقيادة العامة للجبهة القومية ومكتبا لأمينه العام عبد الفتاح اسماعيل ، وبيت ال "بس" الرأسمالي في معاشيق سكن الإشتراكي عبد الفتاح بعد ان ترك منزله في التواهي . 
 وبيت البس المجاور لقصر الشكر سيسكنه احمد حبيب العراقي الشيوعي ليعلم علوم الاشتراكية لقادة ج ق في عدن الحبيبة !
   ومن مفارقات التاريخ ايضا ان مكتب فتاح هذا سيصبح مكتبي بعد عدة سنوات عندما تحول القصر إلى مقر ومطابع صحيفتي ( الثوري) و(14 اكتوبر) المهداة من الحزب الشيوعي السوفيتي ، كنت قد اصبحت مدير تحرير صحيفة 14 اكتوبر. امامقر اللجنة المركزية ومكتب الأمين العام فقد انتقل إلى مبنى آخر امام حديقة نشوان ونادي البحارة في التواهي . 
  يحب هذا الحالم ان يسكن الجبال ويطل على البحر ويحلم بمدينة فاضلة في اليمن للعمال والفلاحين ، ويجالس الشعراء الحداثيين امثال اودونيس ، وزكي بركات  ويكتب شعرا بسيف بن ذي يزن ، وقيل ان زكي بركات والقرشي عبد الرحيم كانا يكتبان له الشعر ! لكن لايوجد دليل على ذلك .
 سافرت معه مرتين . مرة لحضور المؤتمر الثاني لقمة الصمود والتصدي في الجزائر بعد ان رفض الرئيس سالم ربيع حضوره ، وكانت تلك من اخطاء الرئيس التي لم يحسب حسابها ، إذ اتاح لخصمه اللذوذ فرصة لم يكن يحلم بها للظهور امام العالم الخارجي . والمرة الثانية في زيارة قام بها إلى الصومال في عهد الرئيس سياد بري . 
الذي لفت نظري في الزيارتين خارج اجواء السياسة والمحادثات ان الامين العام عبد الفتاح اسماعيل كلف امين المراسم صالح بن عزون ليشتري له قماش بدلات من مقديشو ، وقمصانا من الجزائر ! عدن التي كانت هونج كونج العرب قبل الاستقلال وتعيد تصدير بضاعة الشرق والغرب الى موانىء العالم ، يشتري الرجل الاول اوالثاني على اقل تقدير ملابسه من اسواق الصومال والجزائر ؟! 
   بعد زمن طويل كان فيها منفيا في موسكو ، وكنت الملحق الإعلامي في سفارة اليمن الديمقراطية ابدى إعجابه عبرالهاتف بقصة منشورة لي ، وكان مرافقه وطباخه الخاص ناصر يأتي إلى مكتبي ليأخذ له الصحف التي تأتي من الوطن .

                             ( 3)
 خرجت والزميل حليس من مكتب عائدة  وفي يدناجواب التوظيف في"الثوري" .. أول اجر تقاضيته عن عملي في الجريدة كان 25دينارا ، مايساوي 500 درهم اوشلن ، الدينار الجنوبي كان يعادل في تلك الأيام نحو 3 دولارات تقريبا..
لم تسعني الفرحة .اخيرا وجدت وظيفة في مهنة احبها لها علاقةبالكتابة .
 حملت البشرى لأبي ومعه اجر اول شهر .. أفرحه ذلك كثيرا ، لم اعد عاطلا عن العمل .
  دخلت الصحافة من بوابة الأدب ، قرأت الكثير من الشعروالقصص والروايات 
العربية والإنجليزية والروسيةوالاميريكية. من حسن حظي ان اخي محفوظ كان يقتات الكتب في الدكان الذي يشتغل فيه في حافة الهاشمي ، اشترى الكثير منها  من مكتبات عدن وكوًن مكتبة منزلية كبيرة في بيتنا في الديس الشرقية كانت إطلالتي على القراءة التي لم تتوقف . 
  بدات خربشاتي الأولى في سن مبكرة . بالرسم وتشكيل الطين .في الصف الثالث والرابع ابتدائي كنت محرر وخطاط الصحيفة الحائطية ، ويذكرني زميل دراستي في الصف الثالث في المدرسة الغربية بالديس الشرقية مبارك بن عبيد النموري ، الذي كان من المشتركين في اخراج المجلة كيف تعلموا مني سرعة رسم صورة الزعيم عبد الله السلال .. غريب انه لايزال يذكر ذلك بعد كل هذا العمر ، وتفصيلة صغيرة تعود الى سنة 1963. وفي المعهد الديني بغيل باوزير ، الفت واخرجت مسرحية مثلها زملائي ، وكنت اكتب قصصا قصيرة لم انشر منها شيئا ، وعندما اتخذت الصحافة مهنة لي استهواني العمل في اليومية 14 اكتوبر اكثر من الثوري الأسبوعية ، الكتابات فيها تنحو منحى نظريا ، ولم اكن اجيد هذا النوع من الكتابة عسيرة الهضم  ، وإن كانت تستميلني الفكرة المثالية عن العدالة الإجتماعية التي تدعو لها الإشتراكية ويتبناها التنظيم الحاكم ، وكمبدع كانت تستهويني الأفكار العصرية وكل مايمث إلى الحداثة بصلةخاصة مايخص الشعر والقصة والرواية ..ولازالت .
   اكتوبر صحيفة يومية ومجال الكتابة فيها اوسع واكثر رحابة وفيها فرصة اكبر للتعلم .. وقسم ثقافي يهتم بنشر القصص والابداعات الجديدة ..وهكذا وبدون تخطيط مني وجدت نفسي انتقل للعمل  في 14 اكتوبر ..
  انتقلت الصحيفة إلى شقة اكبر امام متجر الهريش، ثم الى المدرسة اليهودية، السابقة في السيلة .  وتحولت الشقة لسكن عبدالواسع قاسم رئيس تحرير الثوري .ضم المبنى الكبير إدارة مؤسسة 14 اكتوبر للطباعة والصحافة والنشر والإعلان والتوزيع ، بأقسامها المختلفة ، وهيئة تحرير الصحيفة ومكاتب التحرير ، والمطبعة ، كلها لأول مرة في مكان واحد . وطبعا مكتب رثيس التحرير الذي كان في نفس الوقت رئيس مجلس إدارة المؤسسة والمديرالعام وكان حينها سالم زين محمد الذي شهدت المؤسسة في عهده القصير اول تنظيم اداري ومالي فعلي ..
 تداول رئاسة تحرير الصحيفة خلال فترة عملي فيها المؤسس عبد الباري قاسم ، لكنه لم يكن يداوم بحكم عمله وزيرا للاعلام ، سالم زين محمد ، سالم محمد باجميل ، سعيد الجناحي ، سالم عمرحسين ، وعبد الله شرف ، وعلى ادارة التحرير محمد البيحي ، واثق شاذلي ، علي حسين خلف ، والعبد لله  ، وكنت شغلت منصب سكرتير التحرير قبل ذلك فيها وفي صحيفة ( الشرارة ) 
   الأعداد الأولى من صحيفة 14 اكتوبر كانت متواضعة من حيث الورق والإخراج ( 4 ) صفحات من الحجم الصغير ، اخذت تتطور مع الوقت . لكن أهميتها تكمن انها احتوت على اولى القرارات والقوانين التي صدرت عقب الإستقلال . والتطورات والأحداث اللاحقة .. انها التاريخ اليومي لسنوات مابعد الاستقلال ، ويمكن إعتبارها ذاكرة وطن إذا خضعت للمنخل ، وصفيت من الأيديولوجيا .. ومدرسة صحفية لأجيال من الصحافيين والكتاب الذين تعلموا وتربوا فيها وانا واحد منهم .