ينظر إلى وجهي المسترخي ، لم يجد فيه غير تعبير بارد ، وجهي نفسه هاديء الملامح ، برغم مافي صوتي من غضب ،
إنفعال . 
 استحضرته من حيث كان . وضعته على كرسي امامي ، وصببت عليه جام غضبي . 
تعلووجهه الدهشة ، يتطلع إلي في استغراب ، لايجرؤعلى الصراخ ، مثلما كان يفعل عندما كنت من تلاميذه ذات زمن بعيد ..
- كان الواجب ان تحترمني ..تقف لي بادب .. الم اعلمك " قم للمعلم ...
  لا ادعه يكمل . ليس عندي وقت ليسمعني حكمه البالية ، يكفي انني في صباي كنت اصدق كل ماكان يقوله لي ، لنا، وماذا كانت النتيجة؟ لم اجن منها سوى التعاسة ، الألم . وربما لانني اصغيت إليه بما يكفي ، واكثر مماينبغي، اعاني مما انا فيه من مرارة ، اسى ،إنسدادنفس ،
،شرايين، وافق . جاء دوره لينصت لي .
  - تتكلم بحقد ،ماذنبي ؟ لماذا اخترتني انا دون العالمين ؟
   -  مرت اربعون مذ رأيتك آخر مرة.
   - لقد كبرت.
   - ومرت السنون بسرعة .
   - هل تزوجت ؟
   - وصار عندي اولاد .
   -والعمل ؟
   - وظيفة حكومية .
    - مامشكلتك إذن ؟
  لم اجد صورة الكرامة التي كنت تحدثنا عنها في اي مكان ..اشعرعلى الدوام بحذاء ..حذاء ثقيل يسحق وجهي ..
 - وماذنبي ؟ هل تعتقد انني السبب ؟ لقد كنت مدرسا مثاليا على الدوام ..
 لا اجادله في ذلك ..
  -وبسببك صرت مواطنا مثاليا !            ماالعيب في ذلك ؟ 
  اربعون سنة واكثر منذ وقفت على الحقيقة الجغرافية ..: صوته المتباهي : تبلغ مساحة الوطن العربي يااولاد حوالي
( 14مليون كم 2 ، كل هذه المساحة بوديانها وجبالها ، وثرواتها،وانهارها،
وبحارها ، وتاريخها العريق وثقافتها المشتركة ،كلها ملك لنا. التباهي يسيل من صدره إلى صدري : الدفاع عنه واجب مقدس يااولاد ، لاتنسوا هذاعندماتكبرون . لم ننس لكن هم نسيوا ..وضعونا في وجه المدفع ، في الصفوف الأمامية لكل حرب ، وتواروا في المؤخرة ! عند كل هزيمة يحملونا المسؤولية ، وينسبون كل نصر لهم ! الغنائم والأرباح لهم ..ولنا الشهادة والموت الزؤام..!
    يتقهقر إلى سنوات مضت من عمره ، شريطا من الذكريات ، الصور ، الأحداث . يسأل نفسه إن كان يستحق كل هذه القسوة من تلميذه ؟! امضى عمره ، زهرة شبابه وحتى عمره الذي اقترب من الشيخوخة يلقن التلاميذ ، اجيالا بعد اجيال ، العلم ، الخير ، والفضيلة . على يديه تخرج اطباء ، مهندسون ، معلمون ، رجال مال واعمال ، وزراء ، رفعوا هامته وطالت بهم قامته ..صحيح ان احدا منهم لم يتذكره منذ ان غادروا صفوف مدرسته الابتدائية ، لكنه كان يجد العذر لهم بكثرة إنشغالهم بمشاغل الحياة ومسؤوليات الوظيفة، والأسرة ..فمن اين طلع لي هذا الموتور الحاقد ؟ 
  يصبح راغبا في تعذيبه اكثر ، الرغبة في ان يجلده كما كان يجلده بعروق نخل بليدة، عندمايتمادى في الكذب ، الكسل لايحل واجباته المنزلية ، الرسوب في مادته ،اويتشاقى ...عليه ان يرحم شيخوخته ، لكنه لم يفعل . شيء ما يدعوه لتلك القسوة عليه . لقد ملأ عقولنا بتلك المساحةالخرافية ..جعلنا نحلم بمدن فاضلة ، دنيا لاحدود لها، بحياة رغدة واسعة لايمكن ان نعاني فيها من ضيق اوضائقة ..وكيف يضيق بناوطن بكل هذا الإتساع ؟ كيف ! لكنه ضاق .حتى انه صار اضيق من خرم إبرة .. ولازلنا ننتظر حتى يلج الجمل في سم الخياط !!
                               2
  لم تكن معنا ، حين ضاقت بنا كل هذه المساحات المهولة ، ولفظتنا الريح خارجها ..لم تكن ! لاادري إذا ماكنت عشقته ، ام كان استحالتي الجميلة ؟ كل تاريخنا العبقري ، بطولاتنا ، فتوحاتنا العظمى ، ثم خسارتنا لكل مافتحناه.. ذكرته بسؤالي القديم الساذج له : هل سيكون لكل واحد منا بيت يخصه وحده يااستاذ ؟!
يومهااجابني : وقصر تحيط به حدائق غناء . لم نجد سوى الحرائق يااستاذ ..!
 يجلس امامي مكسورا ، مرتعشا ، لايقوى على الإجابة، اوعلى الدفاع . قلت لنفسي ، قد لايكون ارتكب ذنبا ، هو نفسه يعاني ، ربما اكثر مما أعاني، ويعاني اي معلم اوموظف محروم مثلي من الراتب ، الترقية ، والمعاش المحترم ؟! لو يملك الجرأة ، لو قدر له لوقف امام خارطة الوطن ، واشبعها تمزيقا ، امام تلاميذه ، واعتذر لهم كما يليق برجل شجاع ، لكنه ظل صامتا ، لم يملك شجاعة ان يحاول الانتحار كأقل امر يفعله ، انسحب بصمت من كل المعارك ، وكل معاركه كانت كلاما في حب الوطن ، كان اكثرهم وطنية ، واكثرهم هشاشة ، لم يكن يشبه اي من المقالات التي يكتبها ، والتي ادمناها ، كان الهارب الذي يعود إلى وسادة نومه ، وإلى عث كتبه عن التاريخ الذي لم يعد له وجود ...
 وكان يتربع على كرسي الحكم من لايقرأ التاريخ ولايعتبر من عبرالماضي ، فعرفت لماذا حاضرنا مظلم ، يومها لم افكر اذا كان ثمة مستقبل ينتظرنا ، كل مافكرت فيه احدا القي عليه باللائمة ، فلم اجد غير مدرسي ...
   
 


  

أخبار متعلقة