كأن عدن ، كانت تنتظر هذه اللحظة . لا ، بل هي من صنعت هذه اللحظة .. لايمكن فصل ميلاد الأغنية العدنية على يد الرائدين الشاعر محمد عبده غانم ،  والفنان الملحن والمطرب خليل محمد خليل عن ظرفها التاريخي الزمكاني الذي تخلقت فيه .
فهي إبنة لمدينة عدن من حيث المكان ..
وإبنة لها من حيث الزمان ..
إبنة نهايات النصف الأول من القرن العشرين وبدايات نصفه الثاني .. بتطوراته السريعة ، التجديدية على كافة الأصعدة . في العلوم ، والشعر ، والموسيقى ،والفنون في العالم .
وهو الزمن الذي حققت فيه عدن ، مكانة عالمية مرموقة كواحدة من أهم واشهر الموانيء ، بل وتحتل المراتب الأولى .. وتستقطب إليها الإهتمام والوافدين من الجوار ومن مختلف انحاء العالم . وهو  نفس الزمن الذي وصلت فيه إلى مكانة مرموقة كمنطقة تجارة حرة ، بل من بين اقدمها، وشهدت فيه إنطلاقة في التعليم ، والثقافة ، والصحافة ، والإدارة ، والحياة المدنية ، مع تعدد ديني وثقافي ، وتعايش إنساني بين جميع سكانها من مواطنين اصليين ، ووافدين .  وهو الزمن الذي كون فيه التطور التجاري ، الإقتصادي في عدن تجمعا سكانيا ، ومساحة بشرية ، شديدة التنوع ، لكنها متعايشة ، ومنسجمة مع االتطورات ومفاهيم الحياة المدنية ، حتى من اولئك الذين قدموا من مناطق أو تجمعات ريفية او سكانية متخلفة ، غدت عدن بالنسبة لهم مركز جذب وإشعاع غير مسبوق في منطقة شديدة الجدب والإنغلاق في اغلبها ، فانطلقت منها حركة التنوير إلى بقية الأنحاء . مدينة بهذه الحيوية ، والعصرية ، ماكان ينبغي لها أن تعيش النصف الثاني من القرن العشرين .. قرن التحولات الكبرى ، السياسية ، والعلمية ، والثقافية ، والفنية ، بايقاعات القرون التقليدية … فكانت الأغنية العدنية نتاج كل ذلك دون أن تتنكر لأصالتها وبقية الألوان الغنائية التي هضمتها ، واستفادت منها ، وحافظت عليها ، وقدمتها للناس .



  البذرة التي ألقى بها في تربة عدن القابلة للخصب ، الرائدان غانم / خليل سرعان مالقيت آخرين يرعونها ، يسقونها ، لتثمر وتكون منطلقا لأعمال فنية أخرى ، اتخذ منها أصحابها ، اساسا لأعمالهم الغنائية الجديدة . فطبعوا فترة الخمسينيات من القرن العشرين وماتلاه بطابعها الذي يصب في طابع الأغنية التجديدية . وهكذا ستظهر إلى الوجود رابطة الموسيقى العدنية عام 1951 ، إلى جانب ندوة الموسيقى العدنية التي تأسست في سنة 1949 . 
  عن ذلك يقول الفنان محمد مرشد ناجي في مؤلفه ( أغانينا الشعبية ) : " استمرت الندوة في عطائها الفني وقدمت الحانا جميلة للفنان خليل ، وبعد ان اثبتت التدوة وجودها انضم اليها الفنان سالم احمد بامدهف ، ومكث فيها حوالى عام ثم انفصل عنها ، وانضم ثانية إلى رابطة الموسيقى العدنية والتي اعتبر بامدهف الملحن الأوحد فيها ، وأسهم في إنتاج الكثير من الألحان بلغت ذروة النجاح . ونتيجة التنافس بين الندوة والرابطة فقد تطور الأمر بينهما إلى إحتدام وخصام ، ولكن ظلتا تقدمان الجميل من الموسيقى والشعر وهو ما أبرز عن وجود عدد من الفنانين اليمنيين " .
    البروفيسور نزار غانم ، له رأي في هذا التنافس بين الندوة والرابطة وفي إزدهار الأغنية العدنية بسرعة قياسية . يقول في التسجيل الصوتي الذي اشرت إليه في حلقة الأسبوع الماضي : " هذا الشيء – يقصد ظهور اغنية عدنية – تم بتواتر من الانتجلسيا العدنية التي كانت موجودة ، ونجحت لأنها لم توقف عند التدوة العدنية ، بل جاء ت فروع اخرى ، منها رابطة أبناء الجنوب العربي التي أوحت ان تكون هناك ندوة اخرى تحمل إسم رابطة الموسيقى العدنية ، كما تشكلت ندوة ثالثة تحمل إسم ندوة شباب التواهي . وبعدها تشكلت فرق موسيقية ، فيها شيء من التنافس ، وخضع الموضوع كله لما يمكن ان نطلق عليه اقتصاد السوق الفنية ،  التجارية التي كانت موجودة في ظل مدينة تجارية مزدهرة زي عدن ، وايضا في ظل تدفق البث الإذاعي ،الداخلي والخارجي ، وازدهار صناعة الإسطوانات والمراحل التي مرت بها ، وهذا التطور التقني كان من اسباب نجاحها وانتشارها ، حيث استقطبت عدن ناسا من داخلها و حتى من خارجها ، انفعلوابالمشهد المحلي . هذا كله وظف من قبل  الجمعية العدنية بصورة مباشرة وغير مباشرة ، لأن الجمعية العدنية كانت موجودة في عام ظهور الأغنية العدنية 1949 .  وفكرتها كانت لماذا لا يوجد ملمح ثقافي يعبر عن الهوية العدنية المدنية والمدينية في اشكالها المختلفة ، ومنها على سبيل المثال اعتزازهم بأنهم يجيدون اللغة الإنجليزية إلى جانب العربية ، ويتحدثونها بطلاقة ، بالإضافة إلى معرفتهم بالثقافة الغربية . هذه المعاصرة بين القديم والجديد في عدن كان يتطلب بالمقابل ظهور إنتاج محلي للأغنية تكمل هذا الجزء من الهوية " .  ويضيف بروف نزار : " و بصرف النظر عن التوجهات السياسية للجمعية العدنية إلا انها لم تكن ضمن اجندة محمد عبده غانم وخليل محمد خليل ، وإن كانا قد لبيا ذلك من الناحية الوجدانية. " .


   أكثر الناس قربا من هذه الأجواء الحداثية ، كان الفنان سالم احمدبامدهف . انضم في البداية إلى ندوة الموسيقى العدنية ، ثم غادرها إلى رابطة الموسيقى العدنية التي اصبح الملحن الأوحد فيها ، وقد حقق فيها نجاحا منقطع النظير لم يحققه خلال وجوده فى الأولى . والجدير بالذكر والملاحظة ان القاسم المشترك في اغاني بامدهف وخليل كان هو نفسه الشاعر محمد عبده غانم . اول حفل شارك وظهر فيه سالم بامدهف كان مع الفنان خليل محمد خليل في "  مخدرة "  في صيرة ، والثاني في " راجمنار اسكول "  في كريتر ، ايضا مع الفنان خليل الذي كان نجم الحفلات الغنائية في ذلك الوقت .
 "  يا زين المحيا "  أول عمل جمع بينه وبين الشاعر محمد عبده غانم كما ذكره الصحافي الفني جميل محسن في كتابه ( سالم احمد بامدهف .. عبقرية الفن والموسيقى ) . عن ذلك يقول الفنان سالم بامدهف : الشاعر القدير محمد عبده غانم كان ينظر إلى موهبتي من جانب التلحين ، وخوض غمار هذا المجال ، وكان يطلب مني باستمرار ان ألحن ، ونتيجة إصراره قدم لي أول قصيدة بعنوان " زين المحيا " لكن القصيدة ظلت عندي فترة طويلة دون ان اقوم بتلحينها !! " الخوف ، الذهول من إصرار غانم ان يخوض غمار التلحين الذي لم يسبق ان جربه ، اجواء الندوة ، كلها عوامل حالت بينه وبين خوض غمار هذة التجربة ، وربما كانت الشهرة والنجاح اللذين حققهما خليل ، ايضا إحدى العوامل في تلك الرهبة . لكن محمد عبده غانم الذي كان يؤمن بموهبة بامدهف ، ويرى فيه مالا يراه في نفسه ، أو الأخرون ، ظل على إصراره . تارة ينصحه الذهاب إلى شاطيء حقات لعل الجو الشاعري للمكان يسعفه على التلحين ، واخرى الإتيان إلى منزله . يروي بامدهف :  " توجهت إلى منزله ، كنت اتحمل يوميا مشقة السير على الأقدام من بيتي في حافة شريف بالعيدروس ، إلى منزله في "  الرزوميت "  ، احمل عودي على كتفي ، واسير هذه المسافة إلى أن تمكنت من تلحين القصيدة بالشكل الذي يعرفه الجميع ، ونالت استحسان الشاعر غانم الذي اعتبرها خطوة اولى تليها خطوات اخرى . " 



  صدق حدس محمد عبده غانم فعلا ، وإيمانه بموهبة الفنان سالم بامدهف التلحينية . ولعل ذلك كان يلبي رغبة كامنة في نفسه كشاعر بالفصحى بالدرجة الأولى ، فبعد تجربة قصيدته " ياحياتي "  التي لم تلق النجاح على يد خليل محمد خليل ، وجد ضالته في سالم بامدهف . فقدما معا بعد يازين المحيا ، مجموعة من القصائد الغنائية لاقت النجاح والشهرة .
منها : عرائس اللحن ، الهوى والليل . والكثير من الاغاني باللهجة العدنية ، منها : قولوا له ، على ايش ، يابو العيون الكحيلة ، حبيتك ، مالك كدا مالك ، من علمك ياكحيل العين ، من غيرك ياحبيب .


بعد أن ترسخت مكانته كملحن لايشق له غبار ، سجل اعماله في إذاعة عدن التي افتتحت عام 1954 ، لكنه لم يعرف ابوابها كما يقول إلا في عام 1956 . وفتح له النجاح الذي حققه مع محمد عبده غانم الباب للتعامل مع شعراء آخرين لهم وزنهم ومكانتهم فغنى من كلمات احمد شريف الرفاعي " لوحدي انا كنت ساهر " ،  وللطفي جعفر امان " بيني وبين الليل " ، و " من جمالك .. من دلالك " ، و. " الومك واعاتبك " ، ولمحمد سعيد جرادة " نم على صدري فأنت الأمل " ، ولقيس غانم " الزين جزع مرة " ، ولعبد المجيد الأصنج " تغيبت ياناظري "  . لكنه شكل ثنائيا رائعا مع الشاعر والرائد محمد عبده غانم . فكان بامدهف جناح غانم الآخر الذي حلق به مع جناحه الأول خليل محمد خليل .



  اثارت الحان سالم بامدهف إهتمام  العديد من الباحثين ، ومن هؤلاء الفنان عصام خليدي حيث قال في كتاب  "عبقرية الفن والموسيقى " لمؤلفه جميل محسن : "  تميزت غنائياته بغزارة اللحن ورشاقة الإيقاع ورهافة الصوت ، تعتمد على منهاج الوثبات المقامية والمساحات الموسيقية الرحبة ، وتعدد الكوبليهات ، خاصة في تلحينه للقصائد " .