اهديت مجموعتي القصصية الاولى 
( مثل عيون العصافير على طرف النهر ) الصادرة في عدن سنة1978 ، الى امي الوحيدة التي لن تقرأ هذه القصص ! 
   لكن قبل ان اكتب تلك القصص ، وغيرها فيما قبل ، وفيما بعد كانت امي ، ومن قبلها جدتي ، قد حكيا لي مئات الحكايات ، وانا طفل صغير ، مما استقر في الذاكرة والوجدان ، ومن ذلك السرد التاريخي ، والاسطوري ، والخيالي الشفاهي المتوارث عبر اجيال واجيال ، وقرون متعاقبة . وكل حكاية من تلك ، تحمل في جوهرها عبرة ، او درس ، او حكمة ، لأنها في الاخير خلاصة خبرة الشعوب ،  كونت مخزوني وذاكرتي الحكائية . 
   
   امي نفسها ، كانت اسطورة . من ناحية كانت سحابة حنان ، بحر عواطف . ومن ناحية اخرى كانت طاقة عمل ، لا تعجز عن القيام بأي شيء تريد القيام به في حدود العقل والمنطق . طيبة الى ابعد حدود الطيبة ، تحب كل الناس ، لم اسمعها يوما تشاجرجارا ، اوتغتاب احدا ، او تقول كلمة نابية في حق احد ، كما لم اسمعها يوما تجادل ابي في امر ، او تعترض على شيء قرره ، خاصة امامنا نحن اولادها ، وكنا ثلاثة اولاد ، وابنتين انا اكبرهم . وكنا جميعا نذهب الى المدارس ، فكانت تصحينا من النوم ، فنجد افطارنا محضرا، وملابسنا نظيفة مكواة ، وعندما نعود غذاءنا جاهزا .. ومنا من يسوق الدلال ولا يحب اكل السمك ، فتطبخ له الوجبة التي يرغب . وفي المساء تحضر العشاء . وبين هذا وذاك كنس وغسل وكي ملابس ، وزيارات ، واستقبال ضيوف ... وتلبية طلبات الزوج رب الاسرة . واذا كان كل ذلك يهد الحيل ، ويقصم الظهر، فلم اسمعها تشكو يوما كثرة شغل ، او ارهاق عمل ، بل كانت تفعل ذلك بحب وتفان وهي تشعر في غاية السعادة . اما ما يشغل قلب الام ، ويقلق فكرها اكثر من اي شيء اخر فهو ان مرض احدنا ، او تأخر عن موعد عودته من المدرسة ، اومن لعب ، اوتشاجر مع زميل له فتعرض لاذى ، اوعرض زميله لمكروه .!!  ساعتها ترى كل قلق الدنيا على صفحة وجهها ، وفكرها في غاية الانشغال ، ولايهدأ لها بال ، اويستقر لها حال حتى تزول الحالة التي استدعت ذلك  . 
   
  وبقدر ماكانت امي رقيقة ، وتعتمد في كل شيء خارج البيت على أبي  ، اذ كان هو الذي يحضر كل ما تحتاجه ، ولم تذهب يوما الى السوق ، الى درجة يسود الاعتقاد عنها بانها يمكن ان تغرق في شبر مية اذا واجهت امرا ولو صغيرا بمفردها .. لكن هذا ليس سوى انطباع خاطيء ، فساعة الحاجة ، وعندما يتطلب الأمر ويجد الجد ، فقد كانت تظهر صلابة وقوة شكيمة لا تدري من اين اخرجتهما ! 

    على سبيل المثال ، عندما سافر ابي بعد ان افلس وبارت تجارته ، تركنا بمفردنا مع امنا وكنا جميعا صغارا ، وكنت اكبر اخوتي ، ولم اتعد العاشرة . فتحملت عبء تربيتنا بمفردها ، انتقلت بنا الي بيت صغير ، اقل اجرا ، وجعلتني ابيع الخبز الذي تعده بنفسها . وعندما وفرت مبلغا من المال يكفي ، ركبت بنا البحر نحن الستة فوق مركب شراعي تاه في الطريق ولم نصل وجهتنا عدن الا بعد اسبوعين !!!  حيث التحقنا بأبينا الذي بدأحياته من جديد. هنا استعادت دورها القديم زوجة واما .. وسلمت دفة القياد لبعلها ابو اولادها