هذه المدينة ، غيل باوزير ليست غريبة عني،سمعت عنها من قبل ،جئتهامرات عديدة مع أبي، ومرة وحيدة مع أمي،وفوق هذاوذاك فهي بلدجدي سالم سعيدالحار ، وأخوالي من آل باشطح.كانت ولاتزال تأسرني دائما مدينةالعلم والنور هذه،وقدصار لي فيهابعدأن التحقت بالمعهدالديني،زملاء دراسة،ورفقةعمر،أحدهم صديقي الحميم علوي سالم عمرباعلوي الذي سرعان ماتآلفت معه وصرنا لازملاء دراسة فحسب،بل رفقة عمر وتوأم روح..بعض القلوب تتآلف بسرعة،ولانسأل عن السبب . 
  ولد علوي في حارة من حارات غيل باوزير العتيقة سنة 1950م ، لعب كأي طفل السنوات الأولى من عمره في ازقتها الترابية مع اقران في سنه،والأطفال في هذا العمر المبكر يميلون إلى اللعب ، وإلى فضول فطري في محاولة إكتشاف ابجديات الحياة في محيطهم، ومع من في سنهم ، لكن ليس بعيدا عن رقابة وخوف الأبوين وقلقهما وحرصهما ، وايضا رقابتهماوفقا لتربية صارمة يحرص عليها الحضارم مع أولادهم قائمة على أصول الدين وعلى عادات وتقاليد المجتمع المتدين والمحافظ بطبعه،لكن ايضا دون غلو ، بل بنوع من الوسطية السمحة،التي عرف بها الحضارم على الدوام 
وبواسطتها نشروا الإسلام في الشرقين الآسيوي والافريقي . 
                                ( 2 )

   القلق والخوف أمران طبيعيان في البشر . وفي الأبوين بصفة خاصة يكونان مضاعفين. وهذا الخوف بالذات ، جعل علوي يلتحق بالتعليم في المرحلة الابتدائية متاخرا إلى حد ما مقارنة بالاطفال في سنه ،حيث كان والده - رحمة الله عليه - رافضا لفكرة التحاق فلذة كبده بالتعليم ، ليس لأنه وحيده ، ولا ان له موقفا من التعليم ، بل خوفا من ان يكون مصيره مصير إبنه الأكبرعمر، الذي ضربه احد المعلمين بعصا وأصابه في عينه !! لكن الأب تحرر اخيرا من خوفه امام إصرار إبنه علوي من ناحية ، ومن ناحية اخرى فأنه كرجل مؤمن ، يؤمن بالقضاء والقدر فقد اسلم أمره إلى الله ، وإلى تدبيره ، فألحق علوي بالمدرسة الإبتدائية ، التي أكملها في العام الدراسي 1964/ 1965م .. نفس العام الذي أنهيت فيه دراستي الإبتدائية في المدرسة الغربية بالديس الشرقيةليجمع الله بيننا في المعهد الديني بالغيل في اول عام له للإفتتاح الثاني . وكما يقول علوي : " كانت الداخلية والإعانة الشهرية والمنهج الدراسي الأزهري المطعم بالسوداني الحديث  هو الحافز الأول للالتحاق بالمعهد بدلا عن المدرسة الوسطى .. الأشهر ، ليس بين مدارس الغيل ، بل في مدارس حضرموت ". لعل نفس هذه الأسباب هي التي جعلت اخي محفوظ يختار لي الإلتحاق بالمعهد بالرغم من افتتاح مدرسة وسطى في بلدتي الديس في نفس العام ، ولولا ذلك التدبير من القدير لما كنت عرفته ! او عرفت أولئك التلاميذ الوافدين من مختلف مدارس حضرموت الإبتدائية لنعبر إلى الضفة الأخرى للتعليم ، ولنهر الحب والصداقة التي هي أقوى وابقى .
   محظوظا كنت ، إذ أصبحت وعلوي صديقين حميمين في المعهد ، وفي داخليته، نكاد لانفترق إلا في الإجازة الأسبوعية ، والعطلات الفصلية او السنوية . كان بيننا أشياء كثيرة مشتركة ، قلصت بسرعةاي مسافة بين تلميذين في مقتبل العمر ، فلم يجد كلانا حواجز فاصلة من اي نوع يمكن أن تحول دون هذه الصداقة التي صمدت كل هذا الزمن .
  يحدث ان تلتقي في مرحلة من مراحل العمر بشخص فتنجذب إليه دونما سبب بين ، فتحبه ، ويحبك ، دون غرض،او منفعة ترجوها منه اويرجوها منك ، وتكتشف ان حدسك وحدس كل منكما في محله . وقد اثبتت الايام والسنون صدقه - الحدس - فقد صمدت صداقتنا كل هذه العقود من الزمن ، وستظل حتى آخر العمر إن شاء الله .  
                              ( 3 )

   مثلي ،كان علوي مميزا نوعا ما في التحصيل العلمي، وكان طموحه ان يكمل دراسته حتى التعليم العالي ، ولكن الأقدار ترسم احيانا مسارا آخر للإنسان ،غير الذي أراده ،أو لعله ذلك المسار المقدر والمكتوب له في علم الغيب. بالنسبة لعلوي سالم فإن وفاة والده لم تساعده على تحقيق طموحه هذا ....
  كل شيء مقدر ومكتوب ، يقول علوي :
"  ترك لي الوالد بعد وفاته (كوم) من الأخوان والأخوات يحتاجون إلى رعاية وإدارة شؤون حياتهم المعيشية ، فاضطررت للعمل كاتبا إداريا في ثانوية المكلا عام 70 / 1971م " . 
  الطموح في مواصلة الدراسة لم يغادره .كانت الكويت وجهة الحضارم منذ الستينيات من القرن العشرين الماضي ، يتجهون إليها للعمل او للدراسة .فكانت وجهة سفرعلوي ايضا إلى دولة الكويت .
  حساب البيدر لايوافق دائما حساب الحقل : "حاول صهري محمد صادق ان يجد لي عملا في الفترة الصباحية لألتحق بأحد مراكز التعليم المسائية ، ولكن لم يحالفني التوفيق. فعملت في عدة شركات في القطاع الأهلي في أعمال إدارية ."
                            ( 4 )
  
  علوي ..ليس من النوع الذي يستسلم ، ولعل هذه مزية لاتتوفر لكثيرين .ظلت فكرة " تطوير الذات " تلح عليه بقوة.التحق بعدة دورات أهمها المعهد البريطاني ،حصل على شهادة إمتياز في اللغة الإنجليزية ،ساعدته كثيرا في الحصول على وظائف قد لا يشغلها إلا الحاصلون على شهادة جامعية -كما قال - 
    الإنسان بطبعه كائن إجتماعي ، هكذا خلقه الله ، مثل السمك في الماء. وعلوي اجتماعي من الدرجة الأولى ، محب للناس ، وفي للأصدقاء ، يتواصل معهم أينما كان وكانوا ، ليس ذلك فقط ، بل ايضا يوصل بينهم البين .
  في الكويت كون علاقات اجتماعية متينة مع كافة الحضارم من كل مناطق حضرموت ، وساهم في النشاط الرياضي ، لاعبا ، وإدارياً في نادي اهلي الغيل (فرع الكويت ) ،كما ساهم في النشاط الثقافي من خلال جمعية اصدقاء المؤرخ سعيد عوض باوزير ، وعمل على تكوين علاقة مع الجمعيات الثقافية ، مكنته من  الحصول على إصداراتها وإرسالهاإلى مكتبة الجمعية بالغيل بشكل دائم إلى عام  1990م .ليس هذا فحسب ، بل انه سيكون احد الأعضاء المؤسسين لجمعية ابناء الجالية اليمنية بالكويت التي كان لها نشاط  ملحوظ عند إنشائها . 
                                ( 5 )
 
 لولا انكبابه على العمل الإداري في الشركات والمجالات التي عمل فيها وسلخت منه اغلب واجمل سنوات العمر ، لكي يوفر لقمة عيش نظيفة له ولأسرته الكبيرة بعد وفاة والده ، لربما اصبح علوي كاتبا منذ وقت مبكر من عمره ، لكن حتى هذا المجال لم يرد علوي ان يفته دون ان يخوض هذه التجربة !
  الوفاء لمعلمه ومعلمنا في المعهد الديني ، السوداني ، الأستاذ محمد طه الدقيل ، سيكون الحافز لأن يخوض تجربة الكتابة ، بكل مافيها من متعة ، وتعب ، وبحث ، وتتبع لسيرة شخصية متعددة المواهب ، المعلم ، التربوي ، استاذ الرياضيات ، اللغة الانجليزية ، و المدرب الرياضي ، وقبل هذا وذاك الدقيل الإنسان . سيكتب لكل من عرف الدقيل ، تلامذته ، أسرته ، مجايليه، وسيتطلب منه ذلك الكثير من الصبر ، المتابعة ، جمع المعلومات ، الصور ، الصياغة ، وإعادة الصياغة مرات ، لييخرج في الأخير بكتاب يوثق لسيرة رجل استثنائي من السودان الشقيق يحمل عنوان : ( رجل من السودان في ذاكرة الوجدان : محمد طه الدقيل ، التربوي ، المدرب الرياضي ) .
   ولن يكتفي بهذا ، فسيفتح ذلك شهيته لمزيد من التوغل في عالم الكتابة الذي ليس له حدود ، وفد ارسل لي مؤخرا عبر الواتس مسودة كتاب جديد انجزه ، وكان يشتغل عليه منذ فترة طويلة مكرس عن تاريخ مسيرة مدرسة المعلمين  -الثانوية الصغرى - بغيل باوزير ' مصنع رواد التربية والتعليم  والإدارة ، عرفانا ووفاءا لمدينته غيل باوزير وتوثيق دورها الريادي في شتى مجالات التعليم .
                             (6)
  عام 1991م عاد إلى ربوع الغيل ، مرابع الطفولة والصبا ، سيستعيد ذكريات الأيام الخوالي ، ويسير على طرقات مشاها طفلا وخلال مراحل العمر ، واستعاد مشاهدها كثيرا في غربته وأغترابه ، وخلال رحلة العودة هذه اشترك مع الباحث نجيب سعيد باوزير في تأسيس جمعية المؤرخ ، وشغل سكرتيراً إداريا ومندوبا للجمعية في دولة الكويت ، وكتب بعض المواضيع في مجلة الفكر الدورية التي تصدرها الجمعية .

    القراءة والاطلاع من بين اهم اهتمامات علوي الشخصية ، رغم المشاغل الحياتية والمعاشية..شغفه الفارط بالقراءة يمكنه من إقتناء وجمع الكثير من الكتب ،وتكوين  مكتبته الخاصة التي تضم آلاف العناوين في مختلف التخصصات .. نشترك وإياه في هذا الشغف ، منذ كنا تلميذين في المعهد الديني بغيل باوزير ، حيث كانت في زاوية بالمسجد مكتبة تحوي الكثير من الكتب في الشعر والرواية لأدباء العصر ، وكنت وزميلي علوي من الرواد المترددين عليها بصفة دائمة، وربما انني ورثت هذا الشغف بالقراءة من اخي محفوظ الذي كان يقتني مكتبة كبيرة في منزلنا في الديس الشرقية .
  ليس هناك من خسارة اكبر على من كان مثل علوي ومثلي من ان يفقد كتبه التي افنى العمر في جمعها وإقتنائها .لقد تعرضت مكتبة علوي للسرقة وفقد كل كتبه التي قضى العمر في جمعها.
  في لحظة ما عزم علوي على إرسال مكتبته بالكويت إلى البلاد ،الا انها سرقت جميعها من سيارة النقل المتوجهة إلى حضرموت ! 
  بحسرة كمن فقد كنزا ثمينا لايمكن تعويضه بأي ثمن يعبر علوي عن خسارته قائلا : " كان بينها مجموعة ضخمة من الكتب بإهداءات من مؤلفيها شخصيا ، منهم الأديب  الكويتي اليمني الأصل ، ابن الوهط المرحوم احمد السقاف ، والأديب والشاعر السعودي الشريف منصور بن سلطان الفعرعضو جمعية الثقافة بجدة ومن اهل الطائف ، وقد أهداني بخط يده قبل وفاته عندما كنت اعمل في مكتبته بجدة حتى عام ١٩٩٧م مجموعة من كتبه ودواوينه الشعرية.وغيرهم من الكتاب المعروفين من ضمنهم الشاعر نزار قباني رحمه الله والدكتور احمد باحاج والدكتور عدنان جروان والدكتور احمد برقعان وزميلي نجيب باوزير ،وسامي بن شيخان وغيرهم الكثير .ضاعت المكتبة التي كنت اجمعها منذ سنوات والعوض على الله " .
  حتى في هذا ، نحن صنوان . فلقد فقدت مكتبتي التي كونتها بشقاء العمر خلال سنوات عدة مرات ، ربما لم تتعرض للسرقة مثلما حصل لصديقي علوي ، لكن بسبب عدم الإستقرار والتنقل المستمر من بلد إلى آخر ، بحكم العمل ، اوالتغيرات السياسية، كنت اترك ورائي في كل مرة كتبا ثمينةلاتعوض ..ومااستطعت نقله إلى مكتبة منزلي في المعلا ، قامت دودة الأرض بالتهامها عن بكرة ابيها بكل شهية !! ولا اقول إلا ماقاله زميلي علوي : عوضي على الله .
                              (7 )
  عام 1991م قرر علوي ان يستقر في الوطن .. ربما مل الهجرة ، سنوات الاغتراب الطويلة بعيدا عن الاهل والأسرة ..الحنين الجارف إلى الغيل ، الرغبة في الاستقرار اخيرا فيما بقي من عمر ..
  بعد عودته من الكويت التحق بالعمل في المؤسسة الإقتصادية التي تم افتتاح فرع لها في مدينة المكلا في عام 1990م . وعين فيها محاسبا بالمفهوم الضيق للمحاسبة في نظرهم ! 
 يروي الزميل علوي سالم قصة اغرب من الخيال في طريقة إختيار المتقدمين لشغل الوظائف الشاغرة : 

" تم الإختيار بنزول لجنة من صنعاء التي اختيرت عاصمة لدولةالوحدة، اجتمعت بِنَا نحن المتقدمين الحضارم في ( هنجر) . كان الاختيار للوظائف يتم بطريقة غريبة وعجيبة، دون النظر في المؤهل او التخصص اوالخبرة..هذا طويل يصلح للمحاسبة،هذا متين يصلح للمخازن ،هذا ضعيف يصلح كاتبا ! هكذا يريد المخرج !! وكان نصيبي ان اختارتني اللجنة محاسبا !!
  ياللهول !
 لم يسبق لي ان عملت محاسبا طوال عمري ..
 ظننت أنهم سيطردوني من اليوم الأول  ..!
أخبرت بمخاوفي تلك للأستاذ احمد شيخ ( من الشحر ) وكان يعمل بالإدارة منقولا من مؤسسة الأقمشة. هدأ من روعي وقال لي: 
   - الامر جد هين ولا تهتم بالموضوع.. محاسب يعني مدخل بيانات .
  استلمت العمل لفترة بسيطة ،ثم تم نقلي للعمل سكرتيرا لمدير المجمع الإستهلاكي عبدالواحد المقالح، ثم مسؤولا لشؤون الموظفين ، وأخيرا مدير مكتب مدير المنطقة العقيد محمد نظمي ،ومن بعده العقيد محمد قيس الزبيري " .
                           ( 8 )
عام 1995م  قرر علوي اداء العمرة ، فغادر إلى الأراضي المقدسة ، مهد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومهبط الرسالة .. هناك في رحاب الرحمن أدى العمرة ، ومشى في جلال على خطا النبي والصحابة والمسلمين الأوائل . ولعله في لحظة من تلك اللحظات الربانية ردد بينه وبين نفسه بعضا من قصيدة الشاعر حسين المحضار (في طيبة ).
   هناك طاب له المقام، فعمل بمكتبة الشريف بمنطقة النزهة دوار الجواد الأبيض في مجمع الشريف بجدة.
وصاحب هذه المكتبة هو الأديب الشاعر الشريف منصور بن سلطان الفعر عضو الجمعية الثقافية بجدة .
ثم انتقل الى مركز عبدالرؤوف ناس لخدمات الطالب ، ليضع بصمته الخاصة، بتطوير العمل بإضافة بعض الأنشطة التجارية كطباعة كروت الأفراح والتجليد والمطبوعات التجارية .
 عام 2000 شده الحنين ، فغادر المملكة عائدا الى الديرة الكويت، إلى نفس المجموعة التي كان يعمل عندها حتى 1990م ولازال مستمرا في العمل بها كضابط تأشيرات الكترونية وعلى وشك التقاعد والتفرغ لحياةجديدة في الوطن .ضابط تأشيرات الكترونية بفندق هوليدي ان الثريا سيتي احد فنادق مجموعة بوخمسين القابضة .