الزيارة الثانية ليست كالأولى ،،، تكون قد كبرت قليلا في العمر ، إنها سنوات التكوين وكل يوم تزدادمعرفة
لاباس بها في الحياة والناس .. المدينة نفسها حين تأتيها تكون في طور التغير في بعض الأشياء هنا وهناك .. لكن انطباع الزيارة الأولى ،، يظل ملازما لك ،عالقا في الذاكرة ...
  زرت المكلا بعد ذلك مرات في اوقات متباعدة ،وكلها كانت قصيرة ، وإحداها تفصل بينها وبين آخر زيارة نحو ثلاثين سنة تقريبا .. وفي كل مرة كنت اكتشف أشياء جديدة ، واكسب اصدقاء خلال مراحل العمر المختلفة . كانت المدينة تشهد مزيدا من العمران ، وتتمدد شرقا وغربا حيث نشأت احياء جديدة،، وفي نفس الوقت تتفاعل فيها افكار العصر وتيارات سياسية وفكرية مختلفة منتقلة إليها من عدن والقاهرة ودمشق وبيروت، وغيرها وتنقلهابدورها إلى سواها من المدن وبقية حضرموت ، وتتابع احداث العالم الكبرى ...
  كانت المكلا والسلطنة القعيطية من الإمارات الجنوبية القليلة التي أعطت إهتماما للتعليم وانشات المدارس حتى المستوى الثانوي ومعاهد المعلمين منذ عهد السلطان المصلح صالح بن غالب القعيطي ، وعرفت تعليم البنات مبكرا ...ونشأت فيها الصحف واشهرها الطليعة، والرأي العام ، والرائد ولعبت دورا في عملية الوعي والتنوير ، وتعكس حالة المجتمع السياسية والثقافية. كمانشات فيهادور السينما ، والأندية الرياضية الثقافية ، ودواوين الحكومة ، ونظام مالي واداري ، ومجتمع مدني ، والحضارم بطبعهم ميالون للإلتزام بالنظام وإحترام القانون والجنوح إلى السلم .
                           2
  لايمكن ان تعرف المكلا مالم تتعرف إلى الغناء الحضرمي ، والمكلاويون والحضارم عموما يحبون الغناء بألوانه المختلفة، لكنهم يعتزون اكثر مايكونون باللون الحضرمي من الغناء ، وقد نشروه إلى اليمن والجزيرة والخليج وسائر الوطن العربي ، وحملوه في رحلة هجرتم إلى الشرقين الإفريقي والآسيوي ، واينما رست مراكبهم كجزء من هويتهم الحضرمية . ويقف
 المطرب المجدد محمد جمعة خان الذي طفقت شهرته الآفاق على رأس الهرم الغنائي الحضرمي في العصر الحديث ...كانت الموسيقى والأغاني تسود المكلا بعد ان حررها من طابعها التقليدي واكتسبت سمة عصرية دون ان تتخلى عن اصالتها وجذورها وخصائصها في الكلمات واللحن والغناء ، ممافتح لها المجال لأن يتقبلها الآخرون ويتذوقونها باعتبار الموسيقى لغة أخوة عالمية . وكانت الأغاني في اغلبها تعالج قصص الحب كما هو حال الغناء في العالم عموما، و كان جمعة خان يغني لشعراء ينتمون إلى كل العصور : الجاهلي ، العباسي ، الأموي ، ومعاصرين ، منها قصائد لعنترة بن شداد ، وابي فراس الحمداني ، وشوقي،  والأخطل الصغير ، ولشعراء حضارم : باحكم، البار، حداد الكاف ، المفلحي ، وحسين المحضار . والناس يتذوقون هذا وذاك من الشعر الفصيح والحضرمي الشعبي ويطربون له .
  وانت في المكلا لاتحتاج إلى حجز تذكرة دخول إلى مسرح ،او إلى دعوة حضور من صديق ، فحفلات الطرب هذه في المكلا تقام في الشارع والهواء الطلق ، ومتاح حضورها للجميع كبارا وصغارا، وفي الغالب تكون حفلات أعراس تستمر حتى قبيل الفجر... على المنصة الخشبية المطرب وفرقته الموسيقية ، التي لاتتجاوز عدد أصابع اليد ، عازف العود ، وفي الغالب هو المطرب نفسه ، وعازف اوعازفان للكمان ،وضارب الدربوكة  ( الإيقاع )، وعازف( الناي ) وضارب (الدف  ) بينما الجمهور يفترش الأرض، ويوقع بيديه مع الإيقاع دليل الإنسجام فيشكلان معا جزء يكمل المشهد الغنائي ..                              3
  أحببت المكلا كثيرا ، واكتشفت انني لست الوحيد المهووس بها ، فللشعر والشعراء والمطربين نصيب كبير من هذا العشق ، وبقدر ماتحمل اكثر اغانيهم التغني بالحب والحبيب، فللمكلا فيه نصيب ،، ومن  تلك الأغاني التي اشتهرت على نطاق واسع واجتازت الحدود وحصدت ولاتزال اعجاب الملايين :  "سر حبي" ، للشاعر الكبير حسين المحضار وغناها اكثر من مطرب منهم ابوبكر سالم بلفقيه وكرامة مرسال ، وغناها الفنان الكويتي عبدالله الرويشد قبل الفنانين العرب جميعا كما غناهاراغب علامة وملحم زين، ولازمتها المعروفة: ( لاتعذبني والا سرت وتركت المكلا لك إذا مافيك معروف ) تحس منها ان الشاعر لايريد ان يفارق المكلا لكنه يرغب في عدم فقدان الحبيب ! و" بعد المكلا شاق " للشاعر خالد عبدالعزيز، ألحان إبراهيم الصبان وغناء كرامة مرسال . وحبيبتنا المكلا للشاعر بدر بن عقيل غناء علي العطاس ، وبغينا المكلا ، لجاسم عبدالله...
                                 4
 وللمكلا نصيبها من السرد ، فقد اتخذها الروائي صالح باعامر عنوانا وفضاءا لأحداث روايته( المكلا ) ، والأمر نفسه في رواية الكاتب البحريني د. عبدالله المدني ( من المكلا إلى الخبر ) كمثالين فقط على اتخاذ المكلا كفضاء مكاني تدور فيه احداث الروايتين . ولاشك هناك الكثير في اعمال كتاب القصة القصيرة وفي لوحات ورسوم الفنانين التشكيلين المكلاويين .فمواضيع البحر ومدن البحر كانت دوما تغري الكتاب والشعراء والفنانين في شتى انحاء العالم منذ "الاوديسا" لهوميروس مرورا ب "موبي ديك" لهيرمان ماليفل ، و"مغامرات روبنسون كروزو" للمؤلف دانيال ديفو حتى اصبح ادب البحار من أشهر انواع الأدب .
 ومن اهم الكتاب الذين كتبوا عن عالم البحار ويكاد يكون إنتاجه الأدبي يدور فيه بيتر بنشلي، وروايته "الفك المفترس" التي حولتها السينما الامريكية عام 1975م إلى فيلم اضحى مع الوقت من ايقونات افلام الرعب . وغدا البحر عالما خصبا للحكايات ، وكلنا قرأنا "الشيخ والبحر" لارنست هيمنجواي، "وعمال البحر" لفيكتور هيجو ، و"جزيرة الكنز" لروبرت لويس ، وفي الأدب العربي ، فإن الروائي السوري حنا مينا من اكثر الكتاب العرب إشتغالا في إنتاجه على البحر منذ روايته "الشراع والعاصفة"، واتبعهابالياطر ، والمصابيح الزرق، وكتب نحو 35 رواية اغلبها عن عالم البحر ،ومن كتاب هذا النوع من السرد الروائي جبرا إبراهيم جبرا في روايته "السفينة".

                              5

 قدمت لي المكلا مفاجأة غير متوقعة في إحدى زياراتي لها ...
   ذات مساء مكلاوي ، حضرت واحدا من تلك الحفلات التي تقام في الهواء الطلق بالصدفة.. وهناك كانت المفاجأة التي اذهلتني ..سعيد ! هل هذا سعيد ابن عمي حقا الذي يغني ؟! لا ..لا ..لايمكن ان يكون هو ..ربما احدا يشبهه ..لكن الصورة صورته.. ..والصوت صوته . كنت اعرفه جيدا من ايام الطفولة والمدرسة، لكن لم أكن أعلم أنه يهوى الغناء او يحترفه.. او حتى يقدر عليه .. لكن لم يكن هذا سبب المفاجأة وحده ، بل أن ابن العم هذا كان يعاني من التأتاة ولا يقول جملة واحدةإلا بصعوبة وبعد جهد جهيد ومعاناة شديدة ، فكيف له ان يغني امام جمهور كبير ؟! وجمهور المكلا والحضرمي عموما جمهور ذواق صعب الإرضاء.
.لكن درجة تقبل الجمهور لصوت وغناء سعيد في ذلك المساء والتصفيق الذي حظي به كان دليلا غلى انه تجاوز الإختبار ونجح فيه ، ويبدو ان هذه الليلة لم تكن ليلته الأولى التي يواجه فيها مثل ذلك الجمهور ..الوحيد الذي كان متفاجئاكنت اناوحدي فقط ..! صفقت لابن عمي وصديق طفولتي سعيد من كل قلبي .. كنت فرحا له وبه .. يبدو انه وجد اخيرا علاجا لعقدته النفسية التي سببها له العنف الأسري والتنمر الذي تعرض له في طفولته  ..
                               6
  ولايمكن ان تتعرف إلى المكلا دون ان تتعرف على البحر .. هناك ينبت غناء الصيادين ورقصاتهم ، حيث يغزلون او يرتقون شباك الصيد مفترشين رمل السيف..
او يدهنون قواربهم الصغيرة ، او يرمون شباكهم وقد غاص نصفهم الأسفل في البحر ..هنا يحكون حكايات البحر غير المكتوبة .. عن بحارة ابحروا بسفنهم وابتلعهم المحيط ، او جرفت الانواء قواربهم ولم يعودوا ابدا .. عن صيادين عادوا بجروح اصيبوا بها من عضة سمكة لخم كبيرة" قرش "، او لسعة سمكة" سفن " لكن ما ان برئت جروحهم حتى عادوا إلى البحر ...يتبادلون ذكريات قصص الغرق والجروح المؤلمة ويورثون ابناءهم نفس المهنة .. لايرمونهم إلى الموت بل رغبة في الحياة ...! 
وصغار يسبحون يشبهون البحر وشخصيات البحر !

      ( ولمدن البحر بقية)