وهل يمكن الكتابة عن مدن البحر دون  ان تكون الحامي واحدة منها ...؟
ثم اماكن نحبها لذاتها..الحامي واحدة   منها. ولدت في البحر لهذا لم تستطع ان  تهرب منه.على حافة البحر مشت ،وعلى شفرة المحيط ابحرت وكتبت تاريخها البحري ولم تكن تسأل عن المخاطر كثيرا ...
تصنف الحامي،الواقعةعلى ساحل بحر العرب شرقي مدينة الشحرب30كيلومترا 
كواحدة من أهم الموانىء البحرية في بحر العرب ، ولعبت ادورا تاريخية مهمة في الملاحة البحرية في المحيط الهندي إذ كانت المهنة الرئيسة لأهل الحامي .. وقد نبغ منهم عدة ملاحين وصفوا بأنهم «عماد الملاحة البحرية الجنوبية عبر التاريخ» . ذات زمن ..ذات بحر ،كانت الحامي صاحبة أسطول سفن تجارية بلغ عددها نحو 50 سفينة كان جميع ربابنتها وبحارتها من  نفس ابناء الحامي ، مخروا بها عباب البحر والمحيطات وأعالي البحار،ووصل بعضها إلى الهند والساحل الإفريقي وغيرها من البلدان ..
                         (2)
 كغيرها من المدن الحضرميةجربت عدة اسماء ، قديما سميت (عطار) ، لوقوعها على الطريق الرئيس لتجارة البخور واللبان من الشرق والتي كانت تعتبر  ثروة هائلة في العالم القديم . ويذكر موللر ان اللبان يستخرج من شجرة تسمى اللبان وان المعروف منها خمسة عشر نوعا تنمو جميعها في حضرموت. وما زالت آثار عطار واضحة المعالم على تلة جبلية قليلةالإرتفاع.
وسميت (المحتمية) لأنها (تختفي) بتلال (المقد) من الشمال الغربي و(القارة) من الشمال الشرقي فلاتشاهد من عرض البحر، وتسمى هذه المنطقة اليوم بالبلاد الفوقية ـ  كما وصفها المـلاح باطايع (عام 1805) في إحدى منظومتيه
 الإرشادية بالحامي المحتمية. لكن من بين أسمائها العديدة اشتهرت بالحامي الذي عرفت به منذ انتقال سكانها إلى موقعها الحالي حتى اليوم .
                       (3)
 للباحثين ان يختلفوا على سبب تسميتها بالحامي ، بين من يرى تسميتها نسبة إلى (حام بن نوح) عليه السلام الذي يعتقد أنه مر وسكن بالمكان ومن يرجح الإسم  إلى كثرة الينابيع الحامية"الكبريتية" 
فيها. يميل الناس عادة أن ينسبوا مدنهم إلى أقوام موغلة في القدم دون ان يملكوا دليلاً على ذلك ، لهذا فالسبب الأخير هو المرجح. فقد اشتهرت الحامي بالمياه الكبريتية منذ القرن السادس او
السابع هجري على الأقل،وذكرهاالجغرافي
 الشريف الإدريسي في مؤلفه المعروف ( نزهة المشتاق في إختراق الآفاق ) ويقدر عددها بنحو 25 عيناً لكل منها خصائصها العلاجية ، في علاج الأمراض الجلدية وأمراض العظام والمفاصل وغيرها ... وتحمل اسماء عديدة مثل عين عبدالله ،وعين بن اسماعيل ، بن قمري ، وباحميد، وعين سالم ، وعين القمبع الخ...
  وانتقل أهل الحامي كما يشير المؤرخ (محمد عبد القادر با مطرف) المتوفى في سنة 1988م، في كتابه "الشهداء السبعة" إلى الحامي القديمة ـ البلاد الفوقية ـ من موقع (عطار) وهو اليوم أنقاض تقع شمال غرب الحامي الحالية.
أما الموقع الاستيطاني الأول والأقدم لأجـداد أهـل الحامي فيقع شمال البلاد الفوقية ويبعد عنها (2 كم) تقريباً في الموقع المسمى بـ(شعب النيل) وهضابها وكهوفها الجبلية حيث يعتبر هذا المأوى من مستوطنات العصر البرونزي في اليمن ويؤرخ تقريباً بين الألف (الثالثة – الثانية قبل الميلاد) بحسب خالد احمد وأكد : مدينة الحامي ..شفرة بحر العرب والمحيط الهندي )
                         (4)
 كل شيء في هذه المدينة مرتبط بالبحر
.. تدخل التاريخ من البحر ،وأهل الحامي يشبهون البحر في كل تفاصيله ، يركبون الأزرق ويمتطون صهوة الموج، في مياه مالحة لأيام واسابيع لايرون غير زرقة البحر وزرقة السماء ..كمدينة بحرية -كما يذكر وأكد - "تشتهر الحامي بفرضتها ـ الميناء ـ القديمة وبأبنائها الذين مارسوا النشاط البحري وكانت في القرون الثلاث  الماضية تمتاز بإنجاب مشاهير الملاحين ـ الربابنة ـ كما عرف سكانها عبرتاريخهم الطويل بروح المغامرة البحرية، وكانت هذه البلدة مثار اهتمام رجال البحر من العرب كما يذكر بامطرف – الشهداء السبعة ـ حيث كان سكانها يملكون أسطولًابحرياَتجارياَ من السفن الشراعية يقدر في القرن الماضي بأكثر من خمسين سفينة عابرة للمحيطات. وتعد سفينة (الحمّار) لصاحبها عبيد سالمين واكد من أشهر السفن في تاريخ  الحامي المعاصر (1894-1961) حيث خاضت أعالي البحار ،ووصلت إلى الهند وإندونيسيا
 والساحل الأفريقي (ممباسا تنجانيقا –نيروبي) بالإضافة إلى ملكيته ساعيتين تجوب الساحل اليمني وتصل إلى عدن والمكلا وجيبوتي والصومال أحيانًا كما كانت هنالك سفن أخرى يملكها تجار من أبناء الحامي من أهمها (الفوز) لمالكها عوض باصالح –(الكوكب) لمالكها أحمد عيديد بينما كانت معظم السفن التي يعمل عليها ربابنة الحامي لتجار من المكلا.حيث يعتبر بحارتها وملاحوها في طليعة الملاحين اليمنيين ممارسة وانضباطًا وتمتعًا باللياقة البحرية وقد برز منهم مشاهير البحارة الربابنة أمثال الشيخ سعيد سالم باطايع ( 1766م- 1838م) أعجوبة الملاحين واصبح أبرز ربابنة الحامي وصاحب أشهر منظومة بحرية استدل بها البحَّارة فيمابعد،
 والملاح عوض أحمد بن عروة (1846-1914م) والملاح عمر عبيد باصالح (1864-1942م) والملاح محمد عبد الله باعباد، توفي عام 1980م. 
                        (5)

المرة الوحيدةالتي حالفني الحظ ومكثت في الحامي اكثر من اسبوع ، كان  عندما دعاني عبدالله سهيل البحسني صديق أخي محفوظ لحضور حفل عرسه. وكانا تصادقا في الكويت اثناء هجرتهما الإختيارية. كان شاباً طويل القامة يميل إلى الإمتلاء بعض الشيء لكن طوله كان يخفي إمتلاءه ذاك ، طيب القلب جدا لاتفارق الإبتسامة وجهه ،من النوع الذي تحبه اول ماتراه، يحب المرح والأكل وخاصة الحلويات التي أصر ان اشاركه في تذوقها كل يوم خلال استضافته لي التي أصر عليها بعد إنتهاء مراسم العرس على الطريقة التقليدية الحضرمية، كانت ايام عرس ..ايام فرح.. وخصص لي غرفة بحمام في الدور الثاني من منزلهم المكون من طابقين والمتميز بالبساطة كسائر العمارة في الحامي ، كما لم يكن بعيداً عن البحر ، فكنا نركض نحو البحر ونتأمل تكسر الموج ،وفي نفس الوقت مشدوداً إلى الوادي والنخيل ومياه العيون الكبريتية الحارة التي كان يأخذني إليها كل صباح عبر الطرق الضيقة للمدينة حتى نصل إلى البساتين.
ليس هناك ماهو انعش من مغطس في المياه الحارةالطبيعيةالمتدفقة بين احضان النخيل الممشوق، ونسيم الصباح العليل، مما ذكرني فورا بمياه الصيق في بلدتي الديس الشرقية ..لا أرى نفسي إلامسترخيا فيه..لايختلفان إلا في شدة الإحساس.. ولهما نفس طعم ورائحة الكبريت المنعشة، وتقريباًنفس الخصائص العلاجية .
                          (6)
    دائما توجد مرة أولى ووحيدة.. خلال تلك الزيارةاستطعت ان ارى الحامي من الداخل وعن قرب. وكل ذكرياتي عنها كونتها خلال تلك الزيارة الوحيدة !
قبل ذلك كنت امر عليها عابرا في طريقي من الديس إلى الشحر وغيل باوزير او المكلا والعكس ، فهي تقع على طريق السيارات والمرور من وإلى هذه المدن عبر مضيقها المحاذي لحافة البحر ..
 تمتازالحامي بتفاصيل "باناورامية" مدهشة ...
 البحر بزرقته المُتدرجةالمدهشة ، هدير الموج الذي لايمكن إسكاته، بيوت المدينة بألوانها البنية الترابية ، النخيل والبساتين باخضرارها الدائم، والجبال الأزليةالداكنة في النهاية، جميعا في هذا الحيز المثير الذي اسمه الحامي... في مقتبل صباي وتحت وقع الدهشة الجميلة تماهيت مع تلك المدينة كثيرا، لكن لايمكن ان تراها بكامل جمالها وروعتها إلا اذا رأيتها من البحر ، وبطبعي بي ضعف شديد نحو البحر ،ومدن البحر ، فكيف إذاجُمع بين كل ذلك ؟ البحر...والبيوت بما هي الناس ، والخضرة ،، وينابيع المياه ، والجبل في لوحة واحدة ختم عليها بتوقيع عبقري ..سحر لايمكن إلا التماهي معه.
 يحق لأبناء الحامي ان يحبوا مدينتهم الصغيرة، وتاريخها الذي جعل منها على ألسنة الناس ، والتي خرج منها ربابنة ملكوا مفاتيح البحر ، وفتحوا بها شفرة البحر العربي والمحيط الهندي بتعبير خالد أحمد وأكد والذي انا مدين له بالكثير من المعلومات عن مدينة الحامي. فعن طريق ماكتبه عن مدينته تعرفت على تضاريسها ،عمارتها،والطابع الأوضح  للعمارة فيها منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، فلم اعد أقف على حواف المدينة كما كنت بل قادرا على التعرف على لغتها الطينية ، وابجدية العمران فيها الذي لايختلف كثيرا عن عمارة البيوت عندنا في الديس الشرقية وغيرها من المدن الحضرميةالمجاورة للحامي والذي"يتمثل أساساً في بساطةتصاميمها، وبالتلاصق الحميم في مبانيها الطينية ذات الطابق الواحد والطابقين عند الميسورين والطرقات الضيقة التي تهتم بالتوجيه السليم للمباني حتى تؤمن السير في الظل واتقاء الشمس الحامية مع احترام وصون حرمة البيت وعدم كشف عالمه وخباياه لأعين المارة ".. ولايمكن خلق مثل تلك الخصوصية والظِلال إلا "إذاجاءت الحوائط الخارجية عالية وخالية من النوافذ باستثناء جدران صالة استقبال الرجال الأمامية حيث تطل نوافذها على الطريق رابطة مجتمع روادها الرجالي بالعالم الخارجي" .
                       (7)
 
منتصف1980زرت الكويت ضمن وفد ضم ممثلين من وزارة الخارجية في اليمن الديمقراطية وإدارتي الهجرة والجوازات والجمارك لتعريف المغتربين في الكويت وبلدان خليجية أخرى بالتسهيلات التي يقدمها لهم قانون الجمارك الجديد الذي اصدرته الحكومة عقب التغيرات السياسية التي شهدتها عدن في ابريل من ذلك العام..أغلب المهاجرين القدامى في الكويت هم من حضرموت والمهرة وبينهم نسبة كبيرة من ابناء مدينة الحامي .
   قلت لنفسي هاهي فرصة نادرة قد سنحت لي لأرى صديقي وصديق اخي  عبدالله سهيل البحسني الذي عاد إلى مهجره في الكويت ولم التقه منذ عرسه الذي حضرته في الحامي آواخرالستينيات
، بينمااخترت العيش في عدن ، وتقطعت بيننا سبل التواصل والإتصال طوال هذه السنين..كنت في شوق وحنين كبيرين إليه ولم تنسني السنين وجهه .. فرحت اسأل عنه في "البنك" الذي قيل لي انه يعمل موظفالديه...
                      (8)
  المفاجأة كانت قاسية ، مؤلمة،وغير متوقعة، ولم تكن تخطر على بالي قط ...   موظف الإستعلامات ، بعدأن عرفته بنفسي سألته اذا ما كنت استطيع مقابلة عبدالله سهيل البحسني ،لكنه فاجأني برده البارد والقاسي معا :
  - تقدر تروح له المقبرة !!
  لم أكن قد استوعبت الأمر بعد ، او حاولت أن اقنع نفسي بأني لم اسمعه جيداً،اوربماسمعته خطأً، فعدت اسأله:
 - ايش يسوي في المقبرة ؟ .. هل مات احد من اصدقائه وراح يشارك في جنازته؟!
  وبنفس البرود الفج قال :
  - هو اللي مات ..!
   ياالله ماأقسى كلماتك .. الاتعرف،، يارجل كيف تختار عباراتك،، تمنحها بعض اللطافة والمشاعر الإنسانية ؟!!
لماذا تلقيها هكذا في وجهي كالقنابل ،، كأن الذي تنقل لي خبر موته بهذه الطريقةليس صديقي الذي حضرت عرسه قبل سنوات ،،واستضافني في بيته كصديق ..لا،بل كأخ صغير رغم كل مشاغله كعريس في شهر عسله ؟ ولم يحسسني بأنني غريب او ضيف ثقيل ..
 لم تحملني قدماي ..لم أصدق ،وتحت تأثير الصدمة رحت اسأله سيلا من أسئلة لايربط بينها رابط ...مما كان الموظف لايملك الوقت ليجيبني عليها، واختصر جوابه بالقول :
  -  عبدالله سهيل مات والسلام ..الله يرحمه .
  وتكرم واعطاني هاتف أخيه ربما لكي اتأكد انه لايكذب .. 
   اتصلت بشقيقه محمد فأكد لي المؤكد، فقدمت له العزاء في وفاة شقيقه الأكبر عبدالله . 
 تلك الليلة لم استطع النوم ..ورحت استعيد صورة عبدالله سهيل ، الأيام التي قضيتها معه ضيفأ في بيته في الحامي ، وتلك التي قضاها في بيتنا في الديس الشرقية ضيفا على صديقه اخي محفوظ ...واستغرب ذلك المصير الذي ينتهي إليه شاب مثله في مقتبل عمره ، مليء بالحيوية ومقبل على الحياة ،ثم يموت بالسكتة القلبية بعيداً عن أهله ووطنه ..
 كانت تلك أقسى ماتلقيته في وفاة صديق بعد سنوات طويلة من الغياب وعدم رؤيته ..تلك صورة من صور  النهايات القاسيةلحياة الإغتراب!                
                         (9)
  الحامي من اكثر المدن في حضرموت إرتباطا بالكويت.كلاهما مدينتان بحريتان ، لهذا فالعلاقة بينهماقديمةحددها البحر ونواخذة السفن حتى قبل ظهور النفط في الكويت ...
حتما سمعتم عن المدن المتآخية..وغالباً مايعلن عن ذلك بصفة رسمية بين مدينتين او مينائين تبعد بينهما آلاف الكيلومترات لكن تربط بينهما علاقات وصلات اكثر من بقية المدن ، اوتنويان رفع تلك الأواصر إلى مستويات جديدة. 
 بين الحامي والكويت علاقات تآخي اكثر حميمية ، لاتحتاج إلى إعلان رسمي من ذلك النوع. يصفها الكاتب الكويتي طلال عبدالكريم العرب ب"العاطفية
والتاريخية ، فالحامي ارتبطت تاريخياً بعلاقة خاصة بالكويت فلايوجد بيت في الحامي إلا وله صلة بالكويت" .. وهي : "علاقات كونها البحروصيد السمك ورحلات السفربالسفن الشراعية القديمة بين موانيء المحيط الهندي -كما يقول الكاتب من الحامي عمر منصورمباركوت-
،وهو امر "سابق لظهور النفط في الكويت ، أيام شظف العيش وقلة الموارد عندما كانت الحياة هناوهناك تعتمد على البحر، فقد لعب البحر دورا مائزا في تشكيل طابع الحياة الإجتماعية والاقتصادية لأبناء مدينتي الحامي والكويت ، وخلقت الرحلات البحريةفي المحيط الهندي علاقات تعاون ومودة بين نواخذة مدينة الحامي ونواخذة سفن الكويت الشراعية. فقد كانت مدينة الحامي قديماً مركزاً للسفن الكويتية العابرة، التي كانت ترسو على شاطئ الحامي من أجل التزود بمياه الشرب، وهي في طريقها إلى عدن أو شرق أفريقيا، وبعد ظهور النفط في الكويت استقر نواخذة وبحارة السفن الكويتية في وطنهم، وحلت السفن البخارية محل سفنهم الشراعية، وكان أبناء مدينة الحامي أول من استقر في الكويت، ساعدهم في ذلك علاقتهم الوطيدة بالكويتيين " 
  ( ولمدن البحر بقية)