بكيت ..
    نعم بكيت ، وبكيت كثيرا ، فالبكاء في لحظةالحزن الكثيف هو مايشعرنا بالتحسن، وإلا متنا قهرا ، البكاء يجعلنا نحتمل فقد الأحباب .. 
   كان الأسبوع الأول من يونيو 2024 من أصعب ايام حياتي ، إذ فقدت فيها بعض اعزالأعزاء من الأسرة ، والأصدقاء ، والزملاء ، فزادني الحزن إنهاكا فوق ماكنت مريضا طوال الشهرين الأخيرين ..
  أن تفقد كل هؤلاء الأحبة دفعة واحدة وفي أوقات متقاربة ،امر فوق الإحتمال ، ان تتلاحق المصائب فتنقل لك في كل يوم موت عزيز عليك لخطب فوق طاقة الإنسان ، ما أن سجمت عيني الدموع وتلحفت الحزن العميق على موت عمتي مزنة قاسم شايف ، والدةالمذيع المعروف في إذاعة وتلفزيون عدن صلاح العمودي ،، يوم كان فيها اثنان من اقدم إذاعات وتلفزيونات الوطن العربي ! حتى فجعت بوفاة ابن جدي التربوي القدير محمد عوض سالم بحاح ، الذي أدخل قبل فترة العناية المركزة في مستشفى في المكلا ، وبعدها في مستشفى الديس الشرقية حيث وافاه الأجل ، تاركا في قلوب اهله وزملائه في الوسط التربوي وتلاميذه وكل من عرفه عن كثب الألم والحزن العميقين . ولأن المعلم يتقاضى اقل الأجور في البلدان النائمة لم يستطع دفع كلفة العلاج لمرضه في آخر أيام حياته وهو الذي أفنى عمره في تربية وتعليم أجيال من النشىء...!
 محمد عوض بحاح ليس فقط قريبي ، ولكنه جاري ايضا، حيث الجدار بالجدار ، او السترة بالسترة،كما نقول للحائط في حضرموت ،وزميل طفولتي في "القويرة" وفي المدرسة الغربية في الديس الشرقية،وللطفولة عذوبتها، وعفويتها، والعابها ، وحكاياتها التي لاتنسى، وسنوات عمر قصير يمر بسرعة، قبل ان تباعد بيننا اعوام من الغياب والفراق لم نلتق خلالها .آثر هو البقاء في الديس ، وتلقفتني المنافي القريبة والبعيدة، بعضها إختياري، والاغلب إجباري ورغما عني..كبرنا بسرعة واجتزنا احلام الطفولة
 إلى ريعان الشباب وعنفوان الرجولة ، واخذتنا مشاغل الدنيا وهموم الحياة قبل ان يستهلكناالعمر وامراض الشيخوخة المنهكةفي بلد لايقدرمبدعيه، ويستهلك شبابه وقوته وصحته ثم يلفظه كما تلفظ النواة ..  
    يصفه الكاتب والقاص صالح سعيد بحرق بأنه كان ذاكرة الديس ، والعاشق الأول لمجلة( العربي )الكويتية التي صدرت في ديسمبر سنة 1958م وكان اول رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي ، الذي وقع عليه اختيار  الشاعرالكويتي  من اصول لحجية د.أحمد السقاف الذي تراس لجنة تأسيس المجلة. وكنا نحرص على إقتنائها فور وصولها من عدن ، او مع المغتربين العائدين من الكويت ، وقرأت اعدادها الأولى في مكتبة اخي محفوظ . شكلت العربي جسر التواصل بين اقطار الوطن العربي ، الخارج في اغلبه من حقبة الاحتلال الأجنبي ،ومن خلالها عرفنا الكثير من أجزاء وطننا العربي الكبير ، عبر الاستطلاع المصور الذي كان يتصدر غلاف المجلة وعدة صفحات ملونة، بقلم سليم الزبال ، تصوير أوسكار.  وكان لعدن وحضرموت واليمن شمالا وجنوبا نصيبها من تلك الإستطلاعات.. 
   وروى لي الأستاذ عبدالعزيز قرنح ، الذي كان زميله في الإبتدائي قصة هذا العشق بين فقيدنا ومجلة (العربي) فيقول :" بدأت هواية جمع أعداد مجلة العربي عند الأخ محمد عوض بحاح عام 1968 م تقريباً وهو يملك جميع الأعداد من العدد الأول، والذي ساعده على ذلك مبارك مصاقع الذي استأجر أحد الدكاكين لندف القطن وتصنيع الفرش والمخدات ، سافربعدها إلى الكويت وكان مهتماً بإرسال مجلة العربي شهرياً لمحمد عوض دون انقطاع حتى امتلأت مخازن بيته بمجلة العربي ، قمنا أنا وهو باستطلاعات عن الديس منها "القرن" و"ثوبان"، وكنا نكتبها بخط اليد، كما جمع بقية الأعداد من بائعي كتب الأرصفة بالمكلا لسد النقص في مكتبته . وعندما التحق بسلك التدريس شجع كثيرا من المعلمين والمعلمات على اقتناء مجلة العربي حتى شغفوا بقراءتها وشارك في أغلب أنشطة المدارس الأدبية والصحفية". وإلى ذلك يذكر الكاتب والقاص صالح بحرق إلى ان الفقيدمحمد عوض اصدرصحيفة (صوت الشبيبة)  بالرونيو ،وتراس مجلة (صوت التربية )الأولى على مستوى المديرية التي ضمت موضوعات ومقالات عن التربويين بالديس الشرقية وكان محمد عوض بحاح هو رئيس التحرير والقلب النابض لحركةالاصدارات بالمديرية . ويضيف بحرق:  "لايتصور أحدكم مامعنى إصدار عدد مع تلك الأوضاع ولكن الرغبة والحب كانت هاجسنافحققنا المركز الأول على مستوى المحافظة في مسابقات الأندية الثقافية بالمحافظة وكان بحاح مصاحبا للفريق واحد دعامته الاساسيين".
   لم يترك لي الموت فسحة كافية من الأسى والحزن عليهما للتنفس والتقاط الأنفاس حتى جاءت وفاة زميل الدراسة في المعهد الديني بغيل باوزير فرج محفوظ دويل لتغمرني بموجة حزن مجدد ،وكنا على تواصل يومي عبر الشبكة العنكبوتية طوال السنوات الأخيرة حتى قبل وفاته بأيام قليلة حيث انقطع تواصله ، فشعرت أن خطباً ما ألم به ،حتى قرأت نعيه في جروب ( واحة زملاء المعهد الديني ) فعرفت انه انتقل إلى رحاب الرحمن .. 
   وقبل أن افيق من صدمة موت كل هؤلاء حتى دخلت في دوامة حزن ونوبة بكاء مجددا على موت الصديق والزميل شرف قاسم ، عشت والزميل شرف  سنوات في صنعاء، ونلتقي بشكل يومي تقريبا في مقر حزب التجمع الوحدوي .. وكان قارئا جيدا للأحداث في اليمن ، ومدافعا عن تجربة اليمن الديمقراطية..
وقبل أن اكمل كتابة هذا النعي ، جاء خبر وفاة الصديق محمود مدحي ليزيد من ثقل جبل الأحزان. تحمل مدحي حقيبة التجارة والمالية ،وكان محافظا لمصرف اليمن في عدن الذي كان بمثابة البنك المركزي لدولة اليمن الديمقراطية الشعبية ، وطوال توليه المالية والبنك المركزي شهد اليمن الجنوبي استقرارا ماليا والدينار الجنوبي ثباتا فلم ينزل سعره المحدد بقرابة ثلاثة دولارات . ولم تشهد العملة انخفاضا كالحضيض الذي وصل إليه الريال اليمني الذي أرهق ويرهق الإقتصاد الوطني وكاهل المواطن ... 
 وكان الرئيس علي ناصر محمد في كل الحكومات التي تراسها ، وبعد ان اصبح الرئيس يولي وزارات الإقتصاد والمال والتجارة والتخطيط والنفط للحضارم لما عرف عنهم من كفاءة وإخلاص وأمانة ،  وحسن إدارة للموارد ، فكانوا عند ثقة القيادة والشعب الذين احبهم لكل ذلك ، وماذا يمكن ان يقال عن رجال من العيار الثقيل أمثال الرئيس حيدر العطاس، ورئيس الحكومة فرج بن غانم الذي كان أول رئيس حكومة يقدم استقالته في دولة الوحدة لانه رفض الفساد الذي كان سائدا في صنعاء، وقدم خطة لمكافحته رفضها الرئيس علي عبدالله صالح ، مما اضطره للإستقالة .إلى هذا الرعيل  ينتمي محمود سعيدمدحي ، وفيصل بن شملان ، ومحمد محفوظ باحشوان، وخالد عبدالعزيز ، ومحمد عبدالقادر بافقيه ، وسعيد النوبان ، وصالح بن حسينون ، والقائمة تطول، وهي سياسة بدأها الرئيس الأول قحطان الشعبي في أول حكومة بعد الاستقلال سنة 1967وواصلها من بعده الرئيس سالم ربيع علي ، ولم يحد عنها محمد علي هيثم ، وكرسها كنهج وسياسة علي ناصر محمد . .. 
 منذ اول لقاء اجريته مع محمود مدحي لصحيفة 14 اكتوبر ، عرفت ان هذا الرجل سيكون صديقي ..وتكررت مقابلتي معه عندما كان وزيرا للتجارة،  وعندما كان وزيرا للمالية ومحافظا لمصرف اليمن ، ثم صرنا أصدقاء،  وكان يزورني في موسكو وبعد ذلك في الإمارات، وفي المنصب او خارجه ظل ذلك الإنسان البسيط، المتواضع، الذي
 لا تغيره المناصب او يتغير معدنهم فهو ينتمي إلى حضارة حضرموت التي لاتموت ،، ..
  ياالله كم من الحزن سنحتمل ..وكم من الأعزاء يختطف الموت منا كل يوم ، بل كل دقيقة ، فبعد أن حصدت حرب التسع سنوات العبثيةمن حصدت من شعبنا في الجنوب والشمال ، وماارتكبته  اسرائيل العنصريةمن حرب إبادة جماعية ضد  أهلنا في غزة هل نحتمل المزيد من فقد الأحبة..؟
  لانقول إلا مايقوله الصابرون :
   "لاحول ولاقوة إلا بالله .."
  "إنا لله وإنا إليه راجعون .."