محمد عمر بحاح 
  
  من العليب .. من طينها العريق ، في القويرة ، في الديس الشرقية ، خرج جده ذات زمن بعيد ، إلى تغريبته اوهجرته ،  ولكن ليس إلى جزر القمر ولا إلى زنجبار بل إلى الهند .. ولم يعد منها ابدا .. والآن جاء حفيده المولود بحيدر اباد يسأل عن جذوره ..!
    في ستينات القرن الماضي ، جاء إلى  رأس الخيمة رجل "هندي " وافتتح محلا يسترزق منه ، بقالة على الأغلب . تعرف إلى عزبة للحضارم . اخبرهم انه من حيدر اباد ، لكن اصوله حضرمية ، من آل قرنح . وكان في العزبة شاب من الديس هو ابن محمد عمر الكسادي ماان سمع  بقصته حتى اخبره ، ان آل قرنح هم من الديس الشرقية ، ووعده ان يدله على بعض أقاربه في الإمارات .. فكانت بداية الخيط ..
    في بداية السبيعنيات عرفه إلى عبد الرحمن سالم قرنح الذي يعيش في الإمارات منذ عام 1967، ويعمل موظفا في مطبعة ابوالهول في دبي ..
  يسأله صالح الهندي او صالح عوض قرنح ، إن كان يعرف شيئا عن جده الذي هاجر من حضرموت ،  من اين ومتى ، وبالطبع لم يكن يعرف شيئا عما يسأل عنه ، ولكنه وعده خيرا ..
  وفي منتصف التسعينيات الحت عليه رغبة شديدة فقرر ان يذهب إلى الديس ويرى بلاد جده ، وداره القديم ، وقد رافقه في زيارته هذه قريبه عبد العزيز قرنح الذي تعرف إليه عند عمه عبد الرحمن في دبي ، والذي سيكون دليله ، فسافرا عام 1998م ، وحتى ذلك الوقت لم يكونا يعرفان مصدرا يدلهما على معلومات عن جده هذا ... 
 لم يكن هناك سوى سيدة وحيدة ستقوده إلى تاريخ جده . السيدة مديدة القرنحية ، ام سالم عبود العفاري .. إمرأة ذكية تملك ذاكرةحديدية اشبه بذاكرة الأفيال ، تحفظ الكثير من الاحداث .. القصص والروايات ، وعلى معرفـة بالكثير من بيوت الديس .. وهي التي ستحكي له كل ماتذكره عن تاريخ اسرته و هجرة جده إلى الهند ، وتدله على البيت الذي كان يسكنه في العليب في القويرة ،  المجاور لدارعمي عمر محفوظ المضي ..
 يطل البيت على المسيلة، وله باب يشرف عليها ، وباب صغير في البهو المواجه لبيت عمي عمر المضي .. ومنه إلى  مسجد السادة ، عبر الجسر الواصل بين الجوابي إلى المسجد ..مارا ببيت باكثير الذي هجره اهله إلى زنجبار ..
  يتكون بيت العليب من عدة مربعات ومن حوش كبير كانت تجتمع فيه نساء البيت لدق البن والبهارات عندما كان عامرا بسكانه . اما اليوم فشبه مهجور ولايعيش فيه سوى حفيد واحد رمم غرفتين يسكن فيهما ..  ويوجد فيه بئر جف ماؤه واندثرت . وقبل سنوات احترقت العجوز "عسل "في احد غرف البيت عندما نامت وتركت السراج والعا فانسكب القازعلى بطانيتها فالتهمتها النيران ولم تنجو الحجة عسل ! ...
    لم يبق من البيت. غيرشاهد اثري ، وجدرانا متداعية ، وحوشه الواسع ، واطلاله الملىء بالظلال المعتمة ،  والذكريات المنسية لسكان عاشوا فيه ورحلوا إلى البحار البعيدة ، ومن لم يسعفه الحظ لم توفره المقابر ...
  عما جئت تبحث ياهذا ..؟ عن جدك الذي هاجر إلى حيدر اباد ولم يعد . ام عن الديار .. ؟ هل رايت بما يكفي ؟! .. 
   لم تر الامملكة مقفرة لحلم راودك ذات يوم والح عليك بالمجيء ! 

  هل كان صالح عوض قرنح ، المولود في حيدر اباد سعيدا وهو يرىبيت جده لأول مرة .. اوحزينا وهولايرىسوى بقايا اطلال ذلك البيت الكبير الذي كان يضج بالحياة والحركة ، ويجري الأولاد والاحفاد في جنباته .. و تعبق فيه رائحة البن والبهارات والخبز والسمك المدهور بالتنور .. نفس هذا البيت هاجر منه آل قرنح إلى جزر القمر وزنجبار والهند .لم ير سوى كوم من التراب الذي انهال فوقه كوم من الأحزان.  لم تكن هناك حياة يحتفى بها .. كل ماوجده "منحاز" من الخشب مجلوب من زنحبار لدق البن والبهارات ، و"كعدة " لصنع القهوة ! 
 اكانت هجرة الجد منتهى دورة البحر ، تحط في محيط ، وتهبط في بندر ، نقطة ابدية في تغريبة حضرمية ، يبذر نسله وينثره في كل القارات ..اينما تذهب تجد حضرميا ينفخ اشرعته .. فلا البحر يتوقف ولاالشراع يكف عن الإقلاع .. يصعد مرتفعا في السماء ... ولا النسل يكف من المجيء ...
   عاد صالح عوض قرنح إلى الإمارات موطنه الجديد بعد ان رأى مااراده ..  حصل على جواز الإمارات ضمن الحضارم الذين حصلوا عليه ، وله اختان متزوجتان في الشارقة وعدة ابناءاحدهم برتبة عقيد في الشرطة وهو مدير تحرير مجلة الشرطة 999 ويكتب اسمه العقيد عوض صالح الكندي .. عاد لكن بعد ان رأى جذوره .. والطين الذي ينتمي إليه .. والبيت الذي هاجر منه جده إلى حيدر اباد .. ولربما استنشق في الجدران المتداعية رائحة جده ذاك .. وعرف من اين هاجر ولماذا لم يفكر بالعودة !!