نخرج من مسلف دارنا فندلف إلى سدة بيت عمي سالمين،اوإلى سدة بيت عمتي خديجة. وكل بيوت الديس القديمة لها سدة هي المدخل إلى البيت،ومسلف في آخره في نهاية " الدرع " هو باب صغير للخروج او الدخول منه لأهل الدار فقط . 
  عمي سالمين بحاح ،كان يشغل غرفة صغيرة تعود ملكيتها لجدي عوض سالم بحاح يمارس فيها مهنته في نهاية الممر الذي يفصل بين مسلف بيتنا وسدة بيته وبيت عمتي خديجة ، وبيت الجد عوض سالم .. للغرفة سدة منفصلة في نهاية هذا الممر تؤدي إلى الشارع اوالمطراق يدخل ويخرج منها زبائنه . 
 عمله هذايزدهرفي موسم عودةالمغتربين من الكويت .على الأغلب في رمضان لقضاءإجازاتهم مع اسرهم ، اوفي الخريف حين يدفع بهم الحنين إلىالأهل والنخيل ، ذلك الذي يومض فجأة من ثنايا الصدور ولايسكته سوى فرح الوصول .  
  طويل الليل ..والناس يسهرون إلى وقت السحور ..وعمي سالمين في كوي ملابس زبائنه التي يكون قد غسلها في النهار في مياه الصيق بمكواة على الفحم . 
   لم تكن الكهرباء قد دخلت الديس حتى ستينيات القرن العشرين الماضي ولاحتى سمع ان هناك مكواة كهربائية ، تستمد طاقتها من كبس في الجدار بمجرد ان يوصلها به تتدفق الحرارة ، سحر لم يكن بوسع عمي تخيله ، مجرد التخيل ناهيك عن الحلم باقتناءواحدة تخفف عنه عناء  التعب وتوفرالوقت الذي يقضيه في إيقادالفحم ، تلقيم مكواته، وإعادة
الإشعال مرات ومرات وبذل كل ذلك الجهدالعضلي .
  في رمضان يكون لدي عمي عمل كثير .. ملابس اكثر من كل شهور السنة ، عليه ان يغسلهاويجففها فوق الحجارة تحت حرارة الشمس ويكويها ويسلمها لأصحابها في مواعيدها المحددة .
   ورمضان ليله طويل . .
 يحب عمي الايكون وحيدا . .أن يشاركه احد السهر وقضاءالوقت.. ومن يكون افضل من عنترة بن شداد ، والزير سالم والمهلب وبقية ابطاله ليشاركوه ، وبضع نفر من اصحابه يحبون مثله تلك السير والبطولات ؟
  العثورعليهم لم يكن صعبا فهم اصدقاء عمره ، يؤدون صلاة العشاء والتراويح في مسجد النور ، ثم يتوافدون الى تلك الغرفةالصغيرة.. 
بالكاد تتسع لهم ولطالما فعلوا ذلك عشرات السنين .
   المكان موجود . .
   ووجد المستمعون السمار .. 
   والأبطال موجودون بين دفاف كتبه العتيقةالتي يحرص على الإحتفاظ بها في رف صغير غير بعيد من ملابس زبائنه كإرث ثمين يخاف ان يضيع منه .
  لم يبق إلاّ الراوي . .
  وكنت انا ذاك الذي وقع عليه إختيار عمي سالمين .. 
  بالكاد كنت في الصف الرابع إبتدائي ..
   يعرف انني كنت متفوقا في المدرسة، فابنه محمد يدرس معي وبطريقةما علم حبي لقراءة الروايات والقصص وكان منها الكثير في مكتبة أخي محفوظ .. 
   الأمر صادف هوى ورغبة في نفسي ايضا. .. 
  بعد موت مصدري الأولين للحكايات .. جدتي ابوللونوح وجدي سالم باشطح ، كنت في حاجة إلىمن يعوضني عن فقدهماوإن وجدت العوض في مكتبة اخي ، غيرانني كنت أتوق إلىنوع آخر حتى لو كنت الراوي .. 
   ياسادة ياكرام ..
 وهكذا كل ليلة من ليالي رمضان بعدصلاة التراويح ، امسك بكتاب من كتب عمي القليلة والعتيقة وأبدأ ....
   كان ياماكان ..  في قديم الزمان ، قبل فوات العصر والأوان ..
   كان ....
  وابدأ الحكاية ..ادخلهم إلى ذلك العالم الساحر ، إلى الأحداث ، المواقف ، مشاهد الصراعات والحروب ، التي تطير فيها الرؤوس بضربة واحدة من سيف عنتر البتار اوالزير سالم .. قتلى يجندلون بالمئات واسرى بالآلاف !  
  وعليهم ان يصدقوا !
  ولما لا ..؟  
  اليس هذا ماتفعله السينما الهندية ؟ والامريكية الآن ؟ 
 البطل الخارق يقتل العشرات بل المئات ببندقيته الآلية ،  وبمدفعه يبيدكتيبة كاملة اومعسكرا ؟ تسيل انهار الدماء في وجوهنا ، ومع ذلك نصدق ان هذا حقيقة ويحصل في الواقع !
  على الأقل لم يكن عمي وصحبه قادرين على رؤية تلك الأحداث والمعارك البطولية ولكن كانوا قادرين على تخيلها من طريقة حبك الكلمات .. القصص ..وان يصدقوها ومثلهم كنت باعتباري راويهم الصغير !      أفرح لصيحات الإعجاب من صحابة عمي وكثيرا ماكانوا يفعلون :
  - اعد ... اعد ! 
  فاعيد مرات 
  ومرات ..
 ومرات
    يلقم عمي الموقد بالفحم ، الموقد يمد المكواة بالجمر ، الجمر بالطاقة .. النار لاتكف عن الإشتعال ، ولا إبريق الشاي عن الغليان ، ولاعمي من كوي الملابس .. وخلال ذلك لاتفوته واردة اوشاردة مماارويه رغم انه قد استمع إليه عشرات السنين ويحفظ الكثير من تفاصيله . في كل مرة يحس بالمتعة ، كأنه يسمعه للمرة الأولى . على ما يبدو تمده بطاقةهائلة لاتمام عمله الليلي دون ان يحس بالتعب او الملل !  
     واتقمص دور الراوي ..
    كان ياماكان 
    ياسادة ياكرام ..  
     انتقلت للدراسة إلىغيل باوزير بعد نيل شهادة الإبتدائية سنة 1964 ، ثم  عدن بحثاعن عمل نهاية الستينيات من القرن الماضي  ..
  من بعدي لا اعلم من قام بدور الراوي ، لكن جدران تلك الغرفة الصغيرة التي انصتت كل ذرة فيها إلى تلك الأرواح الهائمةالغارقة الصاعدة من بطون التاريخ ليال طويلة لسنوات لم تعد تسمع تلك الملاحم  .. 
   انقضت حياة كاملة وسكتت شهر زاد عن الكلام المباح بعد أن انقذت بنات جنسها من الموت وبطش شهر يار ، لكن لم يكن في مقدورها إنقاذ تلك الغرفة التي كنت فيهاالراوي ، وعمي سالمين واصحابه جمهوري الصغير ..! 
  لم يبق من الغرفةإلاجدران متداعية وذكرى ..
  لم يعدلعمي سالمين وجود ..
  لم يعد الجمر يشتعل في الموقد .. 
  لم تعدمكواة الفحم تكوي الملابس ولا  الزبائن ياتون لاستلامها نظيفة مكواة ..  وأولئك الأصدقاء لم يعودوا يأتون لسماع سير ابطالهم الشعبيين ..لقد ذهبواإلى حيث يذهب الجميع ...
  لم يعد هناك من يقول : 
  - اعد ...
  ظلت الغرفة مغلقة لسنوات بعد موت عمي سالمين حتى كادت تتحول الى خرابة متداعية،فاضطرت " فطوم " ابنةجدي عوض سالم لبيعها إلى الشيخ عبد الله سعيد غانم .
  بعد قرابة ستين سنة لعبت فيها دور الراوي لعمي سالمين وصحبه الطيبين هانذا احكي الحكاية. لا اذكر اسماءهم ..  أتخيل وجوههم ، ملامحهم سحناتهم السمراء ، ونبرات اصواتهم وهم يهتفون  : 
   اعد ..
       اعد ...
  ليسوا هنا ليقولوها ..
  حتى لوقالوها فان كلامهم سيبتلعه  خلاء في جدران صماء ..