تنفس شارع التكريتي في مدينة عدن رائحة هندية مميزة قبل عشرة عقود من الآن وسرعان ما أصبحت إحدى معالمها البارزة ومصدر جذب للزوار والعمال ورجال الدولة وأرباب المال والمهن حتى اللحظة.
حدث ذلك عندما قدم شاب من مدينة بونا الهندية يدعى محمد بالو عبدالكريم عام 1926م واستقر في مديرية صيرة حاملا معه حلم له نكهة خاصة ومذاق شهي، فافتتح محل لتقديم الكباب الهندي.
ولان مدينة عدن تحتفظ بذاكرتها تعاقبت الأجيال وماتزال رائحة الهند هنا كما لو أنها خلقت في هذه البقعة وليست وافدة، حيث يحمل نجيب بالو حفيد بالو الكبير في محلة بنفس الوتيرة والجودة رغم تغير الظروف وعوامل البقاء والتغيير.
يقول نجيب عن البدايات "كان جدي يبيع الكباب في شوارع بونا في فرشة بسيطة وعندما وصل عدن افتتح هذا المحل الذي أصبح معلما".
توفي بالو الأكبر غير أن المهنة وحب الناس لما يقدمه المحل دفع ابنه للاستمرار في نشاط المحل، لقد استفاد ياسين من العامل الذي يساعد الأب في المحل واستمر العمل حتى انتهت رحلة ياسين مع الحياة.
خلال سنوات من العمل كان نجيب بالو يكتسب الخبرة في صناعة الكباب من والده، لذا سرعان ما احتل الموقع وادار الدفة بمساندة اخوانه، يضيف " نحن اسرة كبابجية غير أن إخواني لا يستطيعون الطهي بالنار أو التجميد".
بداية ثانية
لقد كان عمره حين بدأ في عمله 13 عاما، غير أن وفاءه لمهنة الاسرة جعله ينسق بين العمل والدراسة حتى أكمل الثانوية العامة ... يكبر الإنسان فتتعاظم المسؤولية لذا لم يستطع نجيب ان يكمل الدراسة الجامعية بعد سنة الخدمة وقرر أن يكون كل وقته من اجل العمل والمهنة التي تعد المصدر الوحيد لإعالة الأسرة حالياً وسابقاً، رغم اختلاف وتناقص العائد من المنتج.
يقول نجيب " عائد المحل اليوم يذهب في المصروف اليومي ومتطلبات المحل بين  أجور العمال وفواتير الماء والكهرباء" ارتفاع أسعار المواد الأولية لطبخة الكباب من لحم وتوابل أثر بشكل كبير على عائدات المحل ومع هذا لم يفكر في هجر المهنة والبحث عن اخرى أكثر ربحا، يضيف "كانت حركة السوق في الماضي أفضل بكثير ولا مقارنة مع الحاضر خاصة بالأسعار ولكن أنا أريد أن أحتفظ بزبائني وأكتفي بأسعار مناسبة لي ولهم والأرزاق بيد الله".
هكذا عدن تعلم السكان والوافدين مبادئ الوفاء للأشياء الجميلة والعتيقة، فقط المسؤولين من يفقدون هذه الصفة ويتنكرون لكل جميل تقدمه لهم سيدة المدائن.
الناس البسطاء أيضا يقدرون ما يقدمه كبابجي بالو لهذا تجدون الزبائن يأتون من صنعاء وابوظبي ولندن قاصدين كبابجي بالو بالاضافة إلى أبناء مدينة عدن من جميع المديريات.
لكل منتج عشاقه الدائمون وكبابجي بالو ماركة لها عشاقها الكثر يقوم نجيب "هناك الكثير من الزبائن الدائمون ورغم هذا لا بد من الحجز مسبقا لأن الكباب ينتهي بسرعة".
لم يعد المنتج "الكباب" في صورته النهائية هو ما يقدمه كبابجي بالو للزبائن، فهناك من يأتي لأخذ خلطة الكباب فقط التي يجهزها نجيب قبل الموعد بثلاثة أيام حتى تتجمد بالثلاجة ليتسنى للزبائن أخذها إلى لندن مثلا.
ويضيف كل يوم اثنين وأربعاء يأتي شخص من صنعاء ويأخذ معه كباب جاهز وباليوم هذا أحاول أن أجهزه له الطلبية بسرعة.. وأيضاً تصلني طلبيات من أبوظبي، ومن جميع المحافظات، وهناك زبائن أكلوا من الكباب وعادوا بعد زمن يبحثوا عن كباب بالو.
الطباخة فن
عندما يؤمن الشخص بما يقدمه يجد الإقبال والرواج عند الجمهور ، وهذا ما يقوم به نجيب ، الذي يتعامل مع الكباب بفن واتقان ، انه يراعي حتى المزاج أثناء الطبخ لان ذلك يترك اثرا على المنتج " أنا اتفنن وأبدع بالطهي أطبخ بمزاج رايق ولذلك يعشق الناس كباب بالو".
تحضيرات كثيرة يجب ان يتم تنفيذها بإتقان حتى نحصل على ذلك الكباب تبدأ بشراء اللحم الذي يراعى أن يكون من النوعية الممتازة ثم ينظف جيدا ويضاف إليه البهارات «الكبزرة، الثوم، الكاري، البسباس»، وبعدها نقوم بملاينة الخلطة لمدة ساعة ونصف ثم «ملاينتها» حتى تتماسك، وبعدها نضع لها الثوم ويوضع في الثلاجة لفترة وبعدها نبدأ ببيعها بعد وضعها على النار كما رأيت.
غير أن السر الطعم المميز بالكباب يعود إلى التحويجة وملاينة الخلطة واختيار اللحم النظيف الذي يتماشى مع الكباب فقط، ان الشيء الذي مايزال يزرع الفرحة في روح نجيب يكمن في استمراره في بيع الكباب المميز وممارسة مهنة أجداده .
ورغم إصراره على الاستمرار في طباخة الكباب والحفاظ على تاريخه وعلى أصالته وطعمة إلا أنه يواجه صعوبات كثيرة منها انقطاع التيار الكهربائي الذي دائما ما يزعجه لأنه يؤدي إلى إتلاف المواد.
عدن أفضل من الدنمرك
أثناء المقابلة مع نجيب بالو حدثت قصة سريعة كشفت بعد آخر في شخصية الرجل حيث مر رجل من أمام المحل وطلب مني أن أسأله لماذا هو زعلان منه؟
لكن نجيب رفض الرد فتحدث الرجل عن فرصة قدمها لنجيب قال "لقد أتيت له بصديق يريد أن يأخذه هو وأسرته إلى «الدنمارك» علشان يبيع الكباب هناك ولكنه رفض رفضاً تاماً، الرجل الدنماركي كان متحمساً ليأخذه إلى الدنمارك هو وأسرته".
فرصة مثل هذه يبحث عنها الكثيرون لكن نجيب رفض .. انه الوفاء للمكان والأهل الذي اصبح نادرا بين الناس .. يقول نجيب "أنا مرتاح هنا رغم أني غير مستفيد كثيراً ولكن أحب أن أعيش في عدن بين أهلي".
 فكرة التطوير 
في بلد يصنع المسؤولين العوائق أمام الأفكار والمنتجات المميزة اصطدم نجيب بها عندما بدأ يفكر في تطوير المشروع ... هناك أفكار جيدة لكن السيولة والإمكانات تقف عائقا أمام تحقيقها "حاولت أن أدخل معي شريكاً أنا بالطهي وهو برأس المال وكانت فكرة فتح محل موسع لتعليب الكباب وبيعه للبقالات والسوبر مركت، ولكن تأخر الموضوع كثيراً لأنه ليس لدى فلوس كما كنت أريد أن أعمل خط انتاج لتغليف الكباب البالو".