في عدن ذهب بي اخي محفوظ إلى سوق الشيخ عثمان ، ومن بين كل بضائع العالم التي يزخر بها والتي تزغلل عيني طفل مثلي لم يشتر لي إلاكتابين ، وكنت امني النفس ان يشتري لي لعبة اوربطة عنق تتدلى منها رقبتي . 
  وفي الديس ..صعد بي إلى غرفته وقال لي :  تعال اريك أصدقائي ! 
  كانت الغرفة صغيرة ، لكن غاصة برجال غرباء من جنسيات مختلفة لا اعرف احدا منهم ، وكان " قنديل ام هاشم "  يضيء الغرفة ، و " معطف " جوجول معلقا برفقة على الجدار .. وعصا الحكيم مركونة في زاوية . للوهلة الأولى لم افهم ماهي علاقة كل أولئك الغرباء بأخي محفوظ ، ولماذا اختارني شخصيا ليعرفني بهم لكنه بدد حيرتي عندما قدمهم لي ...
     في هذه المساحة الصغيرة من بيتنا الديسي المعجون بطين العارة وبماء الصيق وعرق جدي كان كل العالم ، تاريخه ، ثقافاته ، عاداته ، تقاليده ، مدنه ، اسواقه ، علاقاته الاجتماعية ، ملوكه ، وصعاليكه ، فتيانه وجميلاته ...
    طفولتي واخي محفوظ ، لااتذكرهماإلا واتذكر ذلك المشهد ..اخي محفوظ نفسه لا اتذكره إلا متأبطا ذراع نجيب محفوظ ، اوتوفيق الحكيم ، اوديستوفسكي ، اوجوركي ، او همنغواي او باسترناك ، او تشانبيك، اوشكسبير . اوتشيخوف ، او تولستوي وغيرهم من غريبي الاطوار اولئك . 
  اسأل احيانا إذا ماكان يعرف احدا غير مؤلفي الكتب والروايات والشعراء .. إذا ماكان له أصدقاء من الديس ، من ابناء جلدته ..أعني بشرا مثلنا ؟ إذ كان هؤلاء من ارباب الثقافة والأدب يبدون لي صنفا آخر غير البشر ،او فوق البشر ! نوعا من العباقرة اوالمجانين الذين يريدون إصلاح العالم وجعله في متناول اليد ..لكن من ناحية أخرى يساعدوننا على فهم الحياة بكل تناقضاتها ، والنفس البشرية بكل تعقيداتها ، مايحرك الفرد ، ومايحرك الوعي الجمعي ..وعلينا نحن ان ندرك ماهو واقع ، وماهومن المخيال ، اورؤية فلسفية ، اورؤية الكتابة اوالكاتب ! 
   الكتابة تجعلنا نذهب أكثر من الحياة ، واعمق من الوعي ،او هي بطريقة ما دعوة للتفكير والتغيير والإنتصار للبعدالإنساني .
    كانت تصيبني الدهشة حين اجد اخي محفوظ يضحك فجأة بهستيريا بصوت عال دون سبب وليس في الغرفة احد غيرنا ، حتى تطفر عيناه بالدموع من شدة الضحك ! واحيانا يفرك عينيه حتى تحمر من فرط البكاء ! وفي الاخير اكتشفت ان ضحكه او بكاءه انما كان لموقف تأثر به خلال قراءته لرواية اوقصة لواحد من اصدقائه أولئك لأن هذه الحالة اصابتني ايضا بعده بوقت قصير .
  ما اظن ان احدا رأى العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه ، بكل قاراته كما رآه اخي محفوظ ..لقد جاب الدنيا افضل من اي جوال او رحالة عرفه التاريخ من قبل .. تنقل بين عواصم البلدان ،مدنها ،شوارعها ، اريافها ، مقاهيها ، ازقتها .. ركض من الداخل الى الداخل ، ومن الخارج الى الخارج .. لايوجد بينه وبينها حواجز لا في الزمان ولافي المكان .بين الحلم و الواقع قسم عمره . قطع السنوات والأمكنة سار علىارض الخرافات ، ورأى مدن الأساطير .. وفي الأخير كما قال لي : العالم ليس إلا رحلة ، سرد حكائي ، مؤلم بلذتة ، ولذيذ بألمه . وفي الحالتين تكمن مرارة الرحلة ، فصول الرواية ، وخيوط اللعبة ، ومن خلال التعارض بين الذاتي والعام ..الروح والوعي ..العقل والجنون ! الوطن والغربة عليك ان تفك شفرة الحياة والذهاب ابعد من الحافة والنهايات .. واستشهد بقول لشكسبير :
  "وماالحياة 
إلاحدوثة يرويها احمق ..
تمتليء بالصخب ،   
وتدل على لاشيء . " 
   سألته يوما : كيف تعرفت إلىنجيب محفوظ ؟!   
  - منذ مصرالقديمة وهمس الجنون ، وعايشته في رواياته التاريخية : عبث الاقدار ، ورادويس ، وكفاح طيبة . وسايرته في كل اطواره ، منذ القاهرة الجديدة ، وخان الخليلي ، وزقاق المدق ، والسراب ، وبداية ونهاية . مع سي السيد وتناقضات الطبقة الوسطى في بين القصرين ، وقصر الشوق ، والسكرية . واشار الى رف يحتوي على كل اعمال نجيب محفوظ حتى ذلك الوقت من بداية ستينيات القرن الماضي اشتراها من مكتبات في عدن ..
   وقال لي : اقرأ له ..ستحبه كما احببته ويصبح صديقك كما هو صديقي منذ سنوات . وانت تقرأ لنجيب محفوظ ، حاول ان تفهم ولاتقرأه للمتعة فقط ..
 لكني قراته لاكما قال لي بل بنهم الذي يريد إلتهام كل شيء بسرعة دون ان يفهم أي شيء .. 
  لم استطع ان أفك مرحلته من الواقعية الاجتماعية إلى الرمزية ، والمضمون الفلسفي والقيمة والرمز إلا بعد ذلك بسنوات عندما اعدت قراءة رواياته من جديد ، بدء من الطريق ، والشحاذ ، واللص والكلاب ، وميرا مار ، وثرثرة فوق النيل . فتعرفت عل نمط جديد من شخصياته التي لم تعدكما في السابق منحوتة كتمثال من الواقع ، بل محالة إلى رمز ديني اوفلسفي اوثقافي ، اوتوميء إلى مفهوم سيكلوجي او رمز تاريخي او حضاري .
  وفي اولاد حارتنا المثيرة للجدل ، والتي كادت تتسبب بموتة ! كان علي بعد ان ادمنت قراءة رواياته ان افرق بين الخيال والواقع ، والحقيقة والرمز ، والا اتسرع في الحكم ، واعي انني أتعامل مع تركيب ادبي روائي ، وليس مع تجسيد لحقائق الواقع . الآن كنت أحاول ان أفهم ولم أكن أقرأ للمتعة فقط ..
    اصبح نجيب محفوظ صديقي ايضا ، وبعد ان سافر اخي محفوظ إلى الكويت ، ومن بعدها إلى الإمارات حللت مكانه في غرفته . تعلقت به وببقية شخوصه في :حب تحت المطر ، والكرنك ، وقلب الليل ، وحضرة المحترم. ، والحرافيش ، وعصر الحب ، وافراح القبة ، وليالي الف ليلة ، وباقي من الزمن ساعة ، وامام العرش ، رحلة ابن فطومة ، والعائش في الحقيقة ، ويوم قتل الزعيم ، وحديث الصباح والمساء ، وقشتمر . 
    في القاهرة حرصت ان ارى الجمالية التي ولد فيها ، واشرب القهوة في مقهى ريش في شارع طلعت حرب ، حيث كان يجلس مع الحرافيش .
    ولم تقتصر صداقة اخي على نجيب محفوظ ، بل كان يوسف السباعي ، وإحسان عبد القدوس ، ومحمد عبد الحليم عبد الله ، وعلي احمد باكثير ، وجرجي زيدان ، وعبد الحميد جودت السحار ، والدكتور عبد السلام العجيلي ، وتوفيق الحكيم ، وعباس العقاد ،  
وطه حسين ، وجبران خليل جبران ، ومي زيادة ، و يحي حقي ، وغسان كنفاني ، وغادة السمان ، وجبرا ابراهيم جبرا ، واسماعيل فهد اسماعيل. ، واميل حبيبي ، والطيب صالح ، وحنا مينا ، وزكريا تامر ، ويوسف ادريس ،  وغيرهم من اصدقائه حاضرين في غرفته ومن ثم صاروا أصدقاءًا لي .
  محظوظ انا إذ لي اخ مثل محفوظ .. فبعد ان فقدت جناحي اللذين اشدد بهما طيراني ، واعني جدتي ابوللونوح وجدي سالم باشطح ، قيض الله لي اخي محفوظ ليعوضني عن هذا الغياب .. وبعد ان كنت اسمع حكايات جدي الأسطورية ، صار بوسعي ان اقرا قصصا وروايات من شتى القارات والعالم .. وبدل ان كانت مروية اومحكية ، صارت مقرؤة ومكتوبة . 
  صار دخولي إلى تلك الغرفة ، دخولا إلى العالم . إلى عوالم السرد وأساليبها المختلفة ، الكشف عن شخوصها ، ابطالها ، الولوج إلى ثقافات جديدة ، والعبور إلى عوالم غير معهودة ..