آخر ما كان ابي يتصوره ان يعمل في معسكر للجيش ..
   لم يكن إلا دكانا لكنه كان يحمل مسمى إنجليزيا لطيفا ""كانتين " وقد رسا على  سعيد احمد قائد اللواء 14 ، ارادني ابي ان ادير الكانتين خلال سفره ، لإحضار امي واخوتي من حضرموت ، معتمداعلى ثقته بي .. سبب كاف ليستدعيني من جعار ..
   كنت اعرف زبائن ابي ، خاصة اعضاء الفرقة الموسيقية قبل ذهابي للعمل في جعار . مع الوقت صار العديد منهم اصدقاء لي رغم فارق السن ، يدعوني لتناول الغذاء معهم ، ويسمحون لي بمرافقتهم لحضور الإحتفالات التي يعزفون فيها ، في الغالب يحضرها كبار رجال الدولة الجديدة .. عزف الفرقة النحاسية جميل ، ويعزفون مقطوعات على النوتة، تدربوا عليها سنوات من عزفهم لسلاطين حضرموت القعيطي 
إلى عهد قريب في مناسباتهم .
   آخر من عزفت له السلطان غالب بن عوض القعيطي في عيدجلوسه ! 
 هل كان يخطر للسلطان الشاب ؟ ان هذا هو عزفها الأخير له ، وانه سيكون آخر السلاطين القعيطيين الذين حكموا ساحل حضرموت ؟! 
   بين البدايةوالنهاية ، مسيرة تاريخ عمره نحو ثلاثة قرون ووجع الترحيل ، زمن التاسيس وزمن الإزدهار ،  الإمارة التي اسسها الجد في حيدر اباد ، والسلطنة التي اقامها الابناء في ساحل حضرموت وتوارثوها اباعن جد ..
    ربما لم يخطر بباله حينها ان النهاية ستكون وشيكة ، وانه سيمنع من النزول إلى عاصمته المكلا ويعود من حيث جاء على ظهر المركب الذي اقلته ...
   محاكاة حضرمية لمشهد ترحيل الملك فاروق على ظهر "المحروسة " من ميناء الإسكندرية بعد ثورة يوليو إلى منفاه ، مودعا مُلك المحروسة ، وحكم أسرة محمد علي !
*****
  17 سبتمبر 1967
   الصدفة هي التي حملتني إلى المكلا في ذلك اليوم ،حين أعيدالسلطان غالب على ظهر الباخرةالتي اقلته من زيارة له إلى الخارج ، وإعلان سقوط المكلا بيدثوار الجبهة القومية عبر مكبرات الصوت .
مثله كنت مطرودا ولكن من المعهد الديني بغيل باوزير مع زميلي علوي سالم مدهر.  
 غريبين كنا ، لانروم ملكا ضاع ، ولالنلحق بقيصر ، بل لنجد من يعيدنا إلى المدرسة لا أكثر ..
   اضرب نحو ثلاثون تلميذا عن الطعام والدراسة ،اتهمناانناالمنظمان اوالمحرضان .صغارا كنا ، بالكاد في الصف اول من الدراسة في المعهد الديني في دورة إفتتاحه الثانية (  متوسط او إعدادي )  .
  عن الإضراب كنانعرف شيئاونجهل اشياء ..نعرف انه وسيلة لتحقيق المطالب ،ولم نك نعرف ان له ثمنا ايضا ، ووسائل تنفيذ وإنجاح ، لهذا فشل من
 أول وهلة ! 
امتنعنا عن تناول الطعام في ذلك الصباح وعن دخول الصفوف ايضا .. هكذا بدون تخطيط ولاتدبير ..
علم السيد عوض الله بالواقعة ، فاستدعانا للتحقيق  ..
   كان السيد يبدو صاحب صلاحيات اكبر من كونه مجرد مدرس معار ، بالرغم من وجود مدير للمعهد معينا من إدارة المعارف ، هو السيد علي محمد بن يحي وهو خريج الأزهر الشريف ايضا ، وله فضلا كبيرا في إعادةفتح المعهد في دورته الثانيةبعد إغلاقه سنة62 / 63، وكان آخر مديرله في دورته الأولى ، وقد بذل جهدا مشكورا مع إدارة المعارف ومع الأزهر الشريف ،واستقدم بعثة تعليمية من الأزهر كان الشيخ السيد عوض الله السيد عوض الله اولهم ، وصاحب النفوذ الأقوى في المعهد . قراراته نافذة بمافي ذلك طرده لي وزميلي علوي ،الذي فرضه على المدير وبقية هيئة التدريس . 
  قبل ذلك عرقل توظيف مدرس حضرمي في المعهد رغم كونه خريج الأزهر لأنه كفيف ! مامن طه حسين ، ولامعري لينتصرا للأعمى الحضرمي ؟!
*****
    كان القرار قاسيا ، ويمكن إحتواؤه من إدارة المعهد بقليل من الحكمة والروية
 لولا إصرار الشيخ عوض الله الذي اتخذ موقفا متشددا حتى لايقال ان تلميذين فرضا إرادتهما عليه ، وايضا لإرسال رسالة لبقية التلاميذ بان هذا سيكون مصير كل من يفكر في الإضراب... مجرد التفكير . 
عرفناالإضراب ومارسناه خلال سنوات النضال الوطني من اجل الاستقلال ، وشاركنا في المظاهرات والمسيرات التي كانت تدعو لها الجبهة القومية وجبهة التحرير . وكان السيد خطيبا ومشاركا فيها وداعية استقلال ، لكنه كان اول إضراب لنا عن الطعام في شأن يخصنا بالذات ، فوقف ضده !
  علمت فيما بعد ان زملائي في المعهد نفذوا إضرابا عن الدراسة عندماتأخر عليهم وصول المدرسين المصريين ، ولم اكن هناك لأشاركهم ، ولا السيد ليمنعه..
 *****
    تهيأ للسيد انني أقلل من إحترامه حين كنت أخاطبه وانا استند بيدي إلى الجدار ، عِوض ان اقف في انتباه واحترام في حضرته كمايفترض .. السيد انتبه إلى ذلك ولم انتبه ..فيماالحقيقة انني لم انتبه إلى وضعي ذاك او اتعمده ، وربما كان هذا من اسباب طرده لناخاصةلي ..
 لم اكن اقلل من إحترام معلمي بل على العكس ،كنت اكن ومازلت له كل الاحترام ، كل مافي الأمر إنني عندما اكون متوترا لااستطيع التحكم في تصرفاتي ، وفي عمري ذاك كنت عصبيا واغضب بسرعة ..
 *****
  حزمناحقيبتينا ، وضعناهما على عربة العم عمر برعية ، ومشينا خلفه وبجانبه حتى وصلنا إلى منزل زميلي علوي مدهر .
 كان عمربرعية. مكتبة الغيل المتنقلة ، ينتقل من مدرسة إلى مدرسة ، يدفع عربته امامه في الطرقات المتربة ..نشتري منه الكتب والمجلات والدفاتر والاقلام والحلويات ، نستعيرمنه الإسطوانات ، ونستلف منه عندما نكون مفلسين . والآن
كنانستخدم عربته لغرض آخر ..
*****
   في ريم المنزل ، كانت نسائم الغيل تهب على السطح من كل الإتجاهات حاملة روائح ازهار الحناء ، وعبق النخيل ، وهبوب البحر غير البعيد ، وصوت السيدة الفاضلة ام علوي الحنون، توصي إبنها بي وهي تقدم لنا طعام العشاء .. 
  كانت لحظة تستحضر فيهاكل حنان الأم الذي كنت احتاجه وانا بعيد عن أمي واهلي.. في لحظة كنت احتاج فيها ان اضع راسي على صدر امي وابكي ..
  في تلك اللحظة ، شعرت بانني املك لاصديقا واخا فقط ، بل اما ايضا ..
 سرت في جسمي قشعريرة لا اعتقد ان سببها كان البرود لأنها زرعت في روحي اطمئنانا عميقا انني لست وحدي . 
  وكانت سماء الغيل تومض بالنجوم .
  

*****
 
  كل الذين قابلناهم في إدارة المعارف في المكلا واتحاد الطلبة الحضارم ، لم يفيدونا بشيء ..
  افضنا في الشرح ساعات طويلات ، وفي الأخيرقالوا لنا : 
  - نتعاطف معكما لكنا آسفون ...
 كان الجميع مسلوب الإرادة والقرار ، او ربما مشغولا بمصيره الشخصي بعد ان داهمته الأحداث بطرد السلطان واستيلاء الثوار على السلطة . في إنتظار إلى اين ستذهب الأمور لم يكن هناك من يهتم بمصير تلميذين مطرودين ! 
   في نفس اليوم سافر اخي محفوظ علىظهر سفينة خشبية إلى الكويت ، مبتدئا تغريبته التي استغرقت اكثر من ربع قرن ، فلم اجد من يسندني سوى زميلي علوي شريكي في نفس المحنة والمصير ...            

    *****

  كانت المكلا بحرا، وجبلا يتعانقان ، سفن يستقلها مسافرون باتجاه مدن بلاشطآن ..
إلى اين ترحلون ، والان كانت سلطنة بلاسلطان .. 
إلى اين ترحل ياسلطان؟
 لا اعرف المكلا .. 
 ولااعرف الفنان التشكيلي علي غداف ، 
لكن زميلي علوي يعرفه ، نزلنا ضيفين في منزله بالمكلا ، واصبحنا صديقين . يغرق  غداف في عالم البحر والألوان ، ويمزج في لوحاته بين الفن التشكيلي ، والعديد من الفنون الأخرى كالمصوغات الفضية التي يوشي بها لوحاتة فيخلق انسجاما تاما بين الرسم والالوان والمصوغات ، يمنح هذا لوحاته فرادتها والتفات النقاد والجمهور إليها . شارك في العديد من المعارض العالمية ،واقتنت لوحاته فنادق مشهورة .
   وبماأن الفنون تتكامل ، فقد كان علي غداف مهووسابسماع الموسيقي مثلي .. لااستطيع ان يمر يومي دون موسيقى ، وسماع الأغاني ..كلما شعرت بالتوتراو الضيق اذهب إلى الموسيقى ، تتمدد بانسياب في شراييني حتى لايبقى في ذراتي ذرة توتر ..  
  سال من شعرها الذهب 
فتدلى وماانسكب 
  كان الغناء ينساب من اسطوانة حجرية من جرامفون علي غداف ، بصوت الفنان السوداني صلاح بن البادية 
 كلما عبثت به 
نسمة ماج واضطرب 
    لم يكن ينقص هذا الغناء الفاخر الإعبد الكريم الكابلي ليضيف اليه جمالا إلى جمال :
" حبيبة عمري تفشى الخبر 
وذاع وعم القرى والحضر 
وكنت اقمت عليه الحصون وخبأته 
من فضول البشر 
   صنعت له من فؤادي المهاد 
وسدته كبدي المنفطر 
ومن نورعيني 
نسجت الدثار وشيته بنفيس 
الدرر .." 
  انتقلت الموسيقى إلى دواخلنا .. من غير الموسيقى في وضعنا ذاك يمكنه ان يسكن حالة الغليان والاحباط التي كنا نعاني ؟!
  لا استطيع مقاومة الموسيقى .. الغناء ولا فرصة التعرف إلى فنان ذاعت اغانيه منذ ذلك الحين من منتصف الستينيات .. عبد الرب إدريس ، تعرفت عليه بواسطة زميلي علوي وزرناه في بيته .. وهو من نجوم الغناء الحضرمي المشهورين ، وملحن خطير ، واصل دراسة الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى في مصر ونال الدكتوراة ، اقام سنوات في الكويت ولحن لكبار فنانيها وفناني الخليج ، زرته في شقته ،وايضا كان الفضل يعود لعلوي مدهر في المرتين . 
 *****
  عدت إلى الغيل ، لابخفي حنين ، بل بصديقين رائعين .
 ذهبنا إلى مدير المعهد السيد علي بن يحي ، في بيته الذي لم يكن بعيدا عن المعهد في محاولة اخيرة ، فقال لنا  : 
  - بتوا للسيد واعتذروا له وينتهي الأمر .
  احببت السيد علي بن يحي لطيبته ، ومازلت رحمه الله .
  ذهبنا إلى السيد عوض الله في شقته ، لم تكن بعيدة ، اعتذرنا له بما لا يمس من كرامتنا ويجعله يرضى عنا في نفس الوقت ويتراجع عن قراره .. 
قبل اعتذارنا ، وعبر عن زهوه حين قالها بصريح العبارة :  لا احد .. لا السلطة الجديدة ، ولاالقديمة يقدرون عليه !

*****

   لا اذكر عددها لكن اذكر انني لم اتأوه رغم الوجع ..ربما كان الألم النفسي الذي سببه لي اكبر من اي ألم ..
  عدة جلدات نفذها المدرس محمد طه الدقيل امام طابور التلاميذ وهيئة التدريس ، كان ذلك ربما العقاب الذي اشترطه عوض الله السيد ليوافق على عودتنا للمعهد ..
  نسيت ان اقول لكم ان سبب فصلنا من المعهد كان من اجل تحسين " الروتي "
 كنا نعيش في عنابر داخلية المعهد ولاحظنا ضمورا في حجم قرص الروتي وسوسا !
 
 *****                (2)

   في إنتظار وصول الرئيس الفرقة الموسيقية تعزف تنويعات لحنية عالمية لبيتوفهن وباخ ، وشونبرغ ، وعبد الوهاب وفريد .الموسيقى عمل فني جميل وسامي لاعلاقة له بخبث ودهاليز السياسة . وهذه التنويعات اللحنية التي تعزفها الآن مفعمة بالجمال ، لكن عددا من الذين في المنصة وآخرين لم يحضروا الإحتفال لم يكن يثيرهم جمال الموسيقى ، تفكيرهم كان تحت تأثير تدبير طريقة يخلعون بها الرئيس .
    كان اول حفل أحضره في معسكر 20يونيو بكريتربمناسبة الإحتفال بالذكرى الأولى لتحريرالمدينة ، ملحمة من حرب التحرير الوطنية ترددت اصداؤها في الإعلام العربي والعالمي .
  عزفت الفرقة السلام الجمهوري عند وصول الرئيس دون ان يعلم انها المرة الأخيرةايضا ، مثل السلطان غالب ..كما عزفت  اغنيته المحببة " بالأحضان ياقحطان " التي استقبله بها شعبه عشية عودته إلى عدن  من جنيف حيث خاض مباحثات الإستقلال مع اللورد شارلكتون وزير المستعمرات البريطاني ، اما المباحثات الحقيقية فقد خاضها الثوار والشعب ضد جنودصاحبة الجلالة الانجليز في شوارع عدن ..
  القى رئيس الجمهورية قحطان الشعبي آخرخطاب له قبل ان يطاح به ويوضعه رفاق الأمس تحت الإقامة الجبرية بعده بيومين فقط .. ويغتالوا رئيس وزرائه فيصل الشعبي "دينامو الثورة " وعقلها المفكر والمنظم في السجن الذي وضعوه فيه بزعم انه حاول الهرب ..!!

                           ( 3 )
                             
      قضى الرثيس سنوات طويلة تحت الإقامة الجبرية ..اليوم الذي افرجوا عنه طلب ساعة يد ليعرف الوقت ، خلع الرئيس الرابع ساعته الثمينة واهداها له .. نظر اليها ليعرف الوقت ، كانت عقارب الساعة تشير إلى لاشيء فلم يعرف في اي وقت هو ، ولا اليوم ولا السنة .. منذ زمن فقد الإحساس بالزمن . حاول ان يتذكر في اي تاريخ تم وضعه هنا ، ولماذا .. وماذا كان يشتغل عندما اعتقلوه ..لم يعطوه ورقا وقلما ليدونه فلم تسعفه الذاكرة ..
خلال سنوات قيد حريته نسي الكثير من الأحداث .حاول ان يتذكر ، لم يستطع .. 
في البداية لم يتذكر شيئا ، وبعد جهد لم يتذكر سوى القليل من الأحداث لكن دلالاتها كانت عظيمة..الغريب انه تذكر الكلمات الأخيرة التي القاها امام جمهور لكنه لم يتذكرالمناسبة ..ولااين . حاول ان يتذكر الأغنية التي كانت ترددها الإذاعة والتلفزيون ، عن شخص اسمه مثل اسمه لكنه نسي كلماتها ، والفنان الذي كان يغنيها ..منذ زمن نسي حتى اسمه .. 
ثم لم يعد يتذكر شيئا...
                       
                             ( 4 )
 
    الثورة تأكل ابناءها .. 
   الصرخة التي اطلقها الثائرالفرنسي جورج جاك دانتون امام مقصلة الموت التي نصبها له رفاقه الثوار في كومونة باريس كانت تكسب مصداقيتها هنا في عدن أيضا .. الثورة الجنوبية لم تكن استثناءا، فمن تبقى من القيادات التي حسبت على الرئيس قحطان تم اغتيالها في حادثة سقوط او إسقاط طائرة الدبلوماسيين فوق شبوة ! اوفي محاكم نصبت على عجل .
   الخلافات التي احتدمت بين جناح الرئيس وجناح يسار الجبهة القومية كماصنف نفسه حسم لصالح الأخير في 22يونيو 1969 ،واسفرعن نظام رئاسي من خمسةاعضاء .. " شاة البلد جابت خمسة تيوس ! " أغنية عطروش التي تبث كل عدة دقائق بعد تشكيل مجلس الرئاسة منعت من الاذاعة بعد ان انتبهوا إلى رمزيتها ..
 الخمسة صاروا ثلاثة 
الثلاثة اثنين 
وسائق التاكسي يصيح في الفرزة :
  - باقي نفر ...! باقي نفر ..! 
   سائق التاكسي ، لاعلاقة له بالسياسة ، انه ينادي على راكب اخير ليكتمل عدد ركابه وينطلق إلى وجهته ..
لكن حتى هذا النداء العفوي لم يخل من دلالة التقطها رجل الشارع في عدن بحسه ووعيه اكثر من كثير حكموه ويفترضون فيه الغباء ! 
     في اغلبهم لم يكونوايملكون الخبرة ومن ذوي التعليم المحدود بعد إبعاد اوتصفية اصحاب الخبرة السياسية والنقابية والتعليم العالي ، لكنهم يرطنون مصطلحات ماركسية لايفهمون معناها ، واكثرهم لم يقرأوا كتابا في حياتهم ويزعمون انهم يفهمون الإشتراكية على "الطائر"  فلم يزيدوا الطبخ إلامزيدا من البهارات التي افسدته ! كما فعل ستالين ، وقد حذر  لينين رفاقه ان يتولى السلطة من بعده ! لم يكونوا مهيأين لصناعة نهاية مختلفة من تلك التي اختتم بها ثوار باريس مشهد ثورتهم !

                           ( 5 ) 

 لم يطب لي العمل مع ابي في "الكانتين ،" في الأخير لم اكن اريد ان ينتهي بي الحال مثله مجرد (شحاري ) كما يطلق على بائع البقالة في عدن . ابي نفسه لم يكن يريد لي هذا المصير الذي لايورث
 غير التعب والمرض في دكاكين العطارة والعطانة . 
   لست املك صبر ابي ولاحكمته . 
   بحثت عن عمل آخر .."كراني" مثلا في الجيش ! لكن لم تكن عندي خبرة إدارية ، ولم اكن انتمي إلى قبيلة، كنت احمل بنية ضعيفة لم تكن تؤهلني للإلتحاق بصفوف المجندين الجدد فصرفت النظر عن عمل الجيش واتجهت صوب الجهاز المدني للحصول على وظيفة في القطاع الخاص الذي كان لايزال نشطا قبل ان تنال منه إجراءات التاميم في 27 نوفمبر 1969.
  كل الوظائف التي عرضت علي كانت في المحاسبة، وكانت اسئلة اصحابها كلها واحدة تقريبا من نوع : 
  - هل تجيد إستخدام الآلة الحاسبة ؟
  - لا .. لكن ممكن اتعلم ! 
  هل تجيد الضرب على الآلة الطابعة ؟ 
 - لا .. لكن ممكن اتعلم ! 
  وفي الاخير قالوا لي :
- آسفين .. لاتوجد وظيفة شاغرة !
  القطاع الخاص ليس لديه الوقت لكي تتعلم ، يريد موظفاجاهزا تعلم على حساب غيره .