أصل حافة القاضي ، تغمرني مشاعر جمة بأنني اعرف هذا الدكان ،الواقع في الركن .له بابان يفتحان على شارعين ، يتكون من دور واحد . تشغل البقالة الغرفة الأمامية ، وفي الخلف المستودع (البخًار ) كما يسمى في عدن ، والمطبخ ، الحمام. و"دارة" باللهجةالعدنية تصله بالسماءوالشمس . 
  رأيته من قبل ، في زمن ما.. 
  الإنجليز جاءوا بمهندس هندي لتخطيط المدينة ، فبناها على غرار بيوت الفقراء الهنود ،ربما كان إبن بحار حضرمي غرقت سفينته على شاطيء هندي ، ولم تكن الميزانية ومساحة ( كريتر ) تسمح له بأكثر من ذلك .
   هنايعمل إبن عمتي وسوف نعيش في المساحة الصغيرة المتبقيةَ،بين اكياس 
الرز والسكر والدقيق وكراتين الصابون والمعلبات وصفائح جاز الانسولين ، والسمن والزيت والحليب ، وكل مايخطر على البال ، ومعنا مستخدم آخر ..
   وفي ليالي الصيف ، وصيف الصيف ،
نصعد إلى سطح الدكان ، نلتمس نسمة هواء في جو عدن الحارق والرطب ..
وصيف عدن حار أوحار جدا . وانت تكتوي بتلك الحرارة تستغرب كيف يستطيع اهلها ان يعيشوا في جوف هذا البركان ؟ عما قليل  تكتشف ان جسم الإنسان يتكيف مع كل الظواهر الطبيعية ، وانك عما قريب ستجد الأمربسيطا جدا ومحتملا جدا ، وان المدى العدني الذي حسبته جحيما لايطاق هو الفردوس بعينه ..!!
  يغلق الدكان في وقت متأخر من الليل ، ويفتح في الصباح الباكر .ومثل(مكوك) يوصل الشحاري طلبات الزبائن إلىالمنازل طوال النهار .اعتقد ان الشحاري اول من اخترع هذه الخدمة التي نسميها اليوم" ديلفري " قبل ان تعرفها بقية المدن .      
                            
                              (2)

  اتخذ موقعا استطيع ان ارقب منه حركة الشارع في الإتجاهين ..كائنات صغيرة ذكية تتحرك على الطريق،وجوههم نضرة ، خدودهم وردية ، شعورهم سوداء او شقراء ..ليسوا سوى تلاميذ وتلميذات المدارس في عمري عندما كنت أذهب إلىالمدرسة وانسى كل ماتعلمته ..!
لو قدرلي ان اعود في عمر هذه الكائنات الرقيقة الجميلة !
لو.... 
ياطفلي الصغير الذي كنته..لماذا لم تبق طفلا؟ لماذا كبرت بسرعة ..لماذا لم تكبر رويدا رويدا لتستمتع بكل متع الحياة في ذلك العمر ؟ 
 تلعب ، تعارك ، ترتكب حماقات الطفولة ، تولع بزميلتك في المدرسة ، او ببنت الجيران. ؟! 
  لماذا لم تستمتع بحكايات جدتك ابللو وجدك سالم إلى آخر مدى ؟ لماذا تركت آحاديثك الممتعة مع الأبقار ، الغنم ، وحشرات الحديقة ، والضفادع التي تطير في مواسم المطر ! وهل تطير الضفادع ؟ جدتك تقول انها تطير ، وعليك ان تصدق وتطير مثلها !
 لماذا كبرت فجأة ؟ خطوت خطواتك نحوالرجولة بعجلة .. لماذالم تبق في مزرعة جديك ..كنت لترشف فرح الدنيا ، لكنك عما قريب ستحمل حزن العالم ...!
  من مكاني ، بمقدوري رؤية موظفين ..
عمالامبكرين..لوكنت املك وظيفة لكنت  مثلهم ولكان لي كيان ووجود..ثمةباعة يقفون بعربات فول ،مشترون لوجبةالبطن الأولى ، قادمون من افران الخبز " الروتي " الصندوق اوالطويل من " اليوناني"  او "الأغبري " في شارع الزعفران .زبائن ، يترددون لشراء حاجاتهم اليومية ،طوال اليوم من الدكان، اما نقدا ، وغالبا بالآجل..
البعض الذين فقدوا اعمالهم بعد رحيل الإنجليز ،اوالتسريح ،يشترون بقدرمعلوم على حساب زملائهم الذين لازالوايعملون 
.حالة عدنية نادرة لن تراها في اي مكان !
  يحين وقت الظهيرة ، عائدةتسلك تلك الكائنات الصغيرةنفس الطريق الذي سلكته في الصباح.. تمازح بعضها البعض ، يضحكون ، غيرآبهين بالبركان العدني ..
لواعود الطفل الذي كنته فابدو بجمال هذه الكائنات والعناديل لاتحفل بشيء .براعم صغيرة تتفتح للحياة دون ان تدري ماالذي ينتظرها ..وسرعان ماتدرك انك لاتتسلى بل تكتشف المشترك بينك وبين حافة القاضي والمدينة ..وان لالذة توازي هذه اللذة ..
   ابن عمتي سعيد يحفظ وجوه واسماء زبائنه ، حتى اطفالهم ، غالبا يكون الصغار من يأتي إلى الدكان للإبلاغ عن طلبات اهلهم ، هذه البراعم النقية ، دائما ماتستهل طلبات البيت بجملة واحدة : 
  - نعم تقول لك أمي ... تشتي بيستين حمر .. وعانة توم .. و...
  يسجلها في سجل الديون ، ويوصلها المستخدم إلى بيوتهم . يعرف عنوان كل زبون ، العلاقة بين الطرفين قائمة على الثقة والأمانة ..ومن حيث لاتدري تتوغل في تفاصيل حياتهم ، وتتخطى كل الاسوار التي اقمتها في قلبك ...
              
                               ( 3  ) 
 
 - ياعبده . ودي المعشرة للشحاري ، قبل مايأذن المغرب .
  - ياعفاف ، شلي الفطار ، وديه للشحاري ...! 
  - حاضر يااماه ..  
  في رمضان تتجلى روعة العلاقة بين الشحاري وزبائنه .
 قبل آذان المغرب يأتيه الإفطار من كل البيوت تقريبا ..صينيات يحملها صبيان وبنات تحوي انواع الطعام والحلويات.. ُشربة، سامبوسة،باقية ،مطبق،خمير ، عتر ، عشار ،لبنية ،عطرية ،جيللي .مائدةإنسانية صنعت بايدي العدنيات الماهرات لاعلاقة لهامابين بائع ومشتري .اهل عدن يتبادلون اصناف الطعام حتى في غير رمضان لكن في شهر الصوم تكون الأصناف اكثر واعظم اجرا ..
  الشحاري لايطبخ سوى سحوره المكون غالبا من الأرز والسمك طوال رمضان،اما غير ذلك فمائدته الرمضانية عامرة مما ترسله له زبوناته العدنيات الطيبات ..
  امضي وقتا طويلا ارقب حركة الشارع ، واتأمل وجوه زبائن الدكان ، من بينهم مشاهير : الشاعر احمد الجابري الذي يكتب اشعارحب جميلة بعدة لهجات .. الفنان حسن فقيه يصوغ الحانابديعة للأطفال..عادل ميسري مخرج التلفزيون الذي سيخرج فيما بعد برنامجي( مشوار ) 
وغير بعيد يسكن الموسيقار احمدقاسم وزوجته الفنانة فتحية الصغيرة حيث كتب موسيقاه وصاغ الحانه التي تسبق عصره.واحيانا يهرب إلى بيت عمي عمر المضي في المعلا بحثا عن هدوء ونغمة شاردة ولحن لم يكتمل .. 

*****
  وهده المدينة لاتنام في ليالي رمضان 
..ترتدي السهر الطويل .. يتدفق إليهامن الحارات وكل الأحياء .. 
 بين الميدان والشارع الطويل وشارع الزعفران ، وتفرعاتها ، تتزاحم ،تتكاثر إلى حد الاكتظاظ في اواخر رمضان . مثلهم تندفع في الطرقات ، تخترق فاترينات المحلات ، تغمرك بكل بضائع الدنيا ، اوما بقي منها ، توهمك بانها مازالت هونغ كونغ العرب ! اجمل ايام العمر التي يمكن ان تعيشها وقدلاتعود .. 
    في اضواء الشوارع المتلالئة ،اناقة الفتيات ، المكان ليس فاترينات فقط ، بل رائحة .. روائح الفل والكاذي. ،البهارات الهنديةوطعم الشاي الملبن في مقهى زكو ، او السكران ، عطور روح الروح التي لاتكف عن التدفق حتى موعد آخر حافلة راحلة إلى الشيخ عثمان ، اوالتواهي آخر يوم في رمضان ..
  حينها فقط تنام والمدينة ..

                             ( 4)
  
 يامزهري الحزين 
من يرعش الحنين 
إلى ملاعب الصبا وحبنا
الدفين
 عبقرية لطفي امان والموسيقار احمد قاسم تملأ المدينة وحاراتها ، الموسيقى  تجعلنا نتصوركل تلك الاحداث والمشاهد بكل البهاء الذي كتب بها لطفي كلمات مزهره الحزين ، وصاغ بها بن قاسم لحنه المذهل ، بكل تفاصيله . 
  عبقرية عدن ، هذه المدينة الصغيرة المستعصية لاتنتهي ولاتكف عن إنجاب المبدعين ..لديها الوقت لتقدم المدهش في الشعر والقصة والفن والصحافة والتنوير والسياسة وعلوم  الدين .
  هل هي عبقرية المكان ..؟
  اول ماجئتها كانت تجلس على فوهة بركان ..وحين عدت إليها كان البركان قد انفجر ...
 أحبهم كثيرا جميعا ..
 احب لقمان وسؤاله القلق : بماذا تقدم الغرب ؟ 
   واحب باذيب ومقالته : المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية ! 
واحب لطفي امان وقصائده الرومانسية عن الحب والوطن . 
   وغانم وخليل وبامدهف في اقتحامهم الجرىء لخلق لون غناثي جديد يليق بعدن وبحرف النون! 
   واحب مسواط ومجموعته " المدرس سعيد "
 وعلي باذيب ومجموعته " ممنوع الدخول " 
  وصالح الدحان ومجموعته" انت شيوعي !" 
واحمد محفوظ عمر في " الناب الأزرق . "  ومن لايحب مثلي موسيقى يحي مكي وجميل غانم واحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبدالله ومحمد عبده زيدي وابوبكر سالم بلفقيه ، وياسين فارع ، واسكندر ثابت ؟!
  احبهم جميعا حتى الذين لم آت على ذكرهم ..احببت عدن حتى النخاع .
احببتها مند اول وهلة..واحببتها في كل مراحل العمر ..طفلا..وتلميذا ، مدين لما تعلمته فيها في جامعة الحياة في السنوات التي مضت وكل العمر القادم .
واحب حسن العدني ....

                               (5)
  
   لكن من هو حسن العدني ؟  
 تعرفت عليه في حافة القاضي ، وسرعان ماصرنا صديقين ، نخيط فراغات المدينة ، نثرثر في أوضاع البلد الجديدة،وكتفالكتف نداوم على الذهاب إلىالخليج الأمامي وبحر صيرة ، حيث يزمجر الموج ..
البحرجميل ومدهش..وحسن يحب البحر مثلي.. نتأمل تلونات الأزرق ..نحس ان العالم كله يأتي إلينا..نبوح للبحر بأصواتنا وآهتنا االداخلية ..يسمعهادون ان ننطق بكلمة واحدة .. يغسل همومنا .. يمتص طاقتنا السلبية ..ونعود ادراجنا وقد تجددت انشطة جسدينا ، وفصوص ادمغتنا.. وبحر صيرة مليء بتاريخ المقاومة الأولى لجحافل هينس..بقصص واغاني الصيادين..وبالسحروالغواية ..
 مع مسرور مبروك نتساءل :
 اين بحر المانش من حقاتنا ؟
  ماالذي جاء بهم من بحر الشمال إلى خليج عدن ؟! 
  لوكانوا يعلمون ان الامبراطوريات عندما تتسع تضيق كما تضيق العبارة ، وان الخروج ليس مثل الدخول ..وان البحر الذي دخلوا منه بالغصب سيخرجون منه بالصميل ! وتكون نهاية امبراطورية لم تكن تغيب عنهاالشمس ..! ربما لتخلوا عن هذاالتمدد ...!
  في البحر تستطيع ان تتكلم في مدى واسع غير مغلق ، في كل شيءتقريبا ..
تخترق صمت الخوف .
  خلال تلك الأحاديث تعرفت على صور من حياته كمدرس تاريخ من أسرة عدنية عريقة ، واطلع على جوانب من حياتي ..  لم يكن فيها مايستحق الإهتمام غير  محاولات اولىفي الكتابة لعاطل عن العمل يبحث عن وظيفة يكسب منها راتبا يساعد به اسرته .. حتى ذلك الوقت لم يكن يعرف إلى اين يتوجه .   
   كم هو طيب العدني ؟ 
   إن كنت لاتعرف ، فلا الومك ! 
خلال وقت قصير اكتشفت كل مافي العدني من طيبة، نبل ، صدق ، بساطة
 ،عطف،وداعة، وقناعة . 
  تعرفي عليه ، وجوده في حياتي خلال تلك الأيام كان هدية من السماء ، ومن حافة القاضي .كان وطنيا لاينتمي إلى أي من الجبهتين اللتين خاضتا حرب التحرير ضد المحتل ثم تقاتلتا عشية النصر ! ولاإلى أي حزب اوتيار من التيارات (القوميسارية ) حسب تعبيره . فرحابالحرية والإستقلال ، قلقا من بعض إجراءات الحكومة التي تمس بوظائف ابناء عدن .
  بدون ان اطلب منه ارسل قصيدة من محاولاتي في كتابة الشعر إلى جريدة 14اكتوبر ، كانت عن صعود الإنسان إلى القمر ..وكان ذلك يثير الجدل تلك الأيام بين مصدق ومكذب ومكفر !
  اعتبره البعض إنجازا علميا لصالح البشرية . 
  وهاجمه شيوخ الدين وأئمة المساجد واعتبروه تعديا على الخالق وكفرابه  .
الشعراء والعشاق عدوه خدشا لجمال القمر الذي لطالما كان انيس سهرهم وقطب 
اشعارهم ومديح العشاق ومواويلهم ..
  بينما اعتبرته اول محاولة للإنسان في معانقة القمر بنشوة ، خارج المغازلة الخيالية عن بعد ..فض بكارته العذراء قبل اكتشاف انه عبارة عن صخور ورمال وفجوات بدون جاذبية ..قد يكون نصرا علميا ، وقد يكون خطيئة إنسانية يندم عليها ! 
 كان مضمون القصيدة يدور حول هذه الفكرة بالذات لكن الجريدة لم تنشرها ا . وقد اغضب ذلك صديقي العدني فاخذني إلىالجريدة للوقوف على اسباب عدم النشر ..ولم يكن يفصلني عنها سوى الخوف وبضع خطوات .
 قال الصحافي وكان مصريا اسمه امين رضوان ان فكرة القصيدة ممتازة لكنه تحفظ على كونها شعرا ، وهذا سبب عدم نشرها .
كنت صامتا طوال الوقت .صديقي العدني
هوالذي يرد ، واحيانابحدة على المسؤول وكأنه صاحب القصيدة ..
وفي الأخير قال لي امين رضوان : 
   _  بص ياابني ..اكتب اي شيء غير الشعر وانا مستعد انشرهولك . 
    منذ تلك اللحظة طلقت كتابة الشعر لكنني ابدا لم اتوقف عن قراءته ..لم اجد نفسي على وفاق مع العروض والأوزان.. ركزت جهدي على كتابة القصة القصيرة  .. واوفى امين رضوان بوعده ونشر لي اول قصة..مماعزز من اعتقادي العارم بانني اصلح لأكون كاتبا ، وان نبؤة جدتي ابوللو لي ذات زمن وانا طفل صغير تحكي له الحكايات : "ستكتب الحكاية ذات يوم !  
 " قد تصبح حقيقة عما قريب .. !
  الجدات لايكذبن ...