في غياب مشروع نهضوي ، وانفتاح حضاري ، نشأت مدن متضخمة بالأسمنت ، او كما أسماها ذات مرة الكاتب الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل : " غابة اسمنت ! " ارتجلت إرتجالا، وتوسعت عشوائيا ، تحصر فيها الأعمال والوظائف والخدمات في حيز واحد ، ويسيطر فيها تحالف اصحاب النفوذ و "الاقتصاد الخفي" على المقدرات المادية والاقتصادية ،إعتمادا على وجاهتهم السياسية والقبلية ، على حساب تهميش بقية السكان والمناطق . يكسبون كثيرا دون ان يسهموا في دورة الإنتاج، ويوزعون المنافع على جماعاتهم لتوسيع نفوذهم ، وضمان ولائهم ، ويعطلون إحداث تنمية مستدامة ، ويرفضون التوزيع العادل للثروة .  مدن من هذا النوع لاتنتج سوى الفوضى والتردي الإقتصادي ، والبطالة ، والفقر ، والتخلف الثقافي ، والفساد ، والصقيع الإجتماعي . ولاتحظى الغالبية السكانية التي تتدفق إليها بحثا عن عمل بعد ان جففت منابع الثروة ، ومصادر الرزق والعمل في مناطقهم وقراهم لإستيلاء المتنفذين عليها ، وإنعدام التنمية فيها . لاتحظى إلابالعذاب الروحي والجسدي بعد ان سحقتهم ، ودفعت بهم للعيش على ارصفتها عاطلين ، اومتسولين ..وإلى احزمة الفقر والأزقة الضيقة الخلفية الفقيرة المكتضة بالسكان والذباب بعيدا عن المراكز التجارية والأحياء الراقية .
  مشكلة المدن من هذا النوع ، عجزها من التحول إلى مدن عصرية توفر العمل والحياة الكريمة للسكان ، ناهيك عن الرفاهية . كما يتبدى عجزها في تلبية حاجات السكان ، وفي إحداث تمازج إجتماعي ، وقيم مدينية ، وفي فشلها في ذات الوقت في الحفاظ على إرثها التاريخي الإجتماعي المتمثل في التآزر والتضامن والتكافل الإجتماعي ، وهي كناية عن فشل الانظمة الحاكمة .
    مثل هذه المدن ، تؤدي الى واقع بائس ينتج الإحباط ، التوتر ، والضياع ، ويفقد فيه المرء جوهره الإنساني وفطرته الإنسانية .
  مدن من هذا النوع ، لاتنتج سوى الفقروالضجر والرتابة ، وطفح المجاري ، والحزن ، وتجعل الإنسان فيها يتسول رغيف الخبز ، تغله القيود والممنوعات ، ويرتعش من الخوف تحت غلظة الجوع والحرب ، ولايحظى فيها بحياة كريمة ، ولابميتة فيها إجلال وإكرام ..فلايعيش فيهاحياة آدمية لائقة وآمنة ، بل جيفة وجثة هامدة ! 
                               (2)
  
  اتصور ان عبد الرحمن السقاف ،عندما اختار لديوانه عنوان ( مدينة بلابيوت ) كان يقصد هذا النوع من المدن بالذات . البيوت هنا تورية عن الناس ، السكان ، البشر . ويشير إلى ذلك الخراب الذي اطاح بها وافقدهاجوهرها الإنساني . والحقيقة ان ذلك هومآلها الطبيعي ، فبالاضافة إلى كل مااشرنا إليه عن طبيعة مدننا ، فان خلوها من الحياة الثقافية ، والصالات الموسيقية ، والحدائق والمساحات الخضراء ، ووسائل الترفيه الأخرى ، قد اصابها بمزيد من الجفاف ، وجعل منها مجرد مدن اسمنتية بلاروح ، وبدون وسيلة للتخلص من الضجر والرتابة والقتامة ، امابالنسبة للغالبية المسحوقة فيعد ذلك نوعا من الترف حتى إن وجدت.
  لم يكن عبد الرحمن السقاف يخترع مدينة غير موجودة ، بقدر مايثير قلقه وقلقنا من تحول مدننا وحياتنا إلى هذا التغول الذي يغتال اجمل مافي الإنسان .
ويفتح اذهاننا على مافيها من تناقضات غريبة ، واول مايفعله نحت دلك العنوان الغريب ..التساؤلي ( مدينة بلابيوت ) ! 
فالعنوان بالرغم من غرائبيته ، لكنه يختزل تاريخا معاصرا باكمله ، من الإذلال ، والهزائم ، التي الحقتها تلك الانظمة ونخبها الحاكمة ، بالانسان بحيث لايصبح آمنا إلابعد ان يصبح جثة هامدة ! فذلك هو الأمان الوحيد المتاح ! 
 ويجد الشاعر / الإنسان نفسه حين يأتيها بمركب الشرود ( غريبا ) ، فالمدينة التي عرفها ذات مرة ، اوذات زمن ، قد تغيرت اوغيرت غصبا ، ملامحها وسلوكها ، ولم تعد كما عهدها ، بعد ان فجر المساء سحنتها . حينها كان مرهف الشعور ، وقد لملمت له ( المدينة ) الهوى ، مابقي من السرور ، وكانت ( تزهر خاطرا رهيف ) حينها كانت تحتفظ ببعض جوهرها الإنساني . 
  اما الان ، فقد تبدل كل ذلك ، إلى الاسوأ (طبعا)، فالطريق نحوها غبار ، والقرى تموت ، والرحيل شرد( الخبوت)  وقد هيج الدمار ، وقد رآه الدمار يغور ، بأنة السكوت ! كما رآها المدينة تلهث الخطى ، جيفة / تجارة ، اوراق بنكنوت ) . وهاهويخاطبها ويصارحها ، ويصارحنا بحقيقتها : (  انا إذن اتيتك ...، يامدينة بلابيوت ، وجئتك يشدني اشتياق ) فكيف وجدها ؟
لقد وجدها ( مدينة تعربد الخطى على المساء ، تجارة وزيف ) . تجمع الشرود في عيوننابلاعناق ، فتاه في إزدحام عريها ، على الطريق ، وفي الرصيف راى دمعة تمر بالتسول ، وتسأل عن الرغيف . ان المدينة " هي ..هم الناس " ، وليس الحجارة وكتل الاسمنت ، فالمدينة التي تعرض عريها على الطريق ، ويفترش البؤساء ارصفتها ، ويتسول فيها الاعزةقبل المهمشين  والمحبطين رغيف العيش بشكل غير معهود من قبل ، ويهيمن فيها على التجارة والمال اثرياء وتجار الحرب والمزيفون ، واصحاب النفوذ والفساد والاقتصاد الخفي ، وتسلب الناس الروح تغدو مدينة بلا قلب ، ولاعواطف ، لقد طغت عليها المادة ، والكل يلهث وراء الربح السريع ، والكسب غير المشروع ، فيزداد الاغنياء غنى ، وينشأ اغنياء جدد عن طريق الحرب والفساد ، والاستيلاء على المال العام ، وتردي العملة ، ويزداد الفقراء فقرا وفاقة ، والانسان غربة ، وينفطر قلبه فيروح ( يوقظ المنى ويبحث عن الرفاق ) و ( اصدقاء مقيل الظهيرة شذا البريق ) لكنه لايلقاهاسوى ( دموع ) ويلقى ( جرحها البليغ لعنة ، اتت من خنجر الاسى ) !! 
  والذي يرى حال عدن اليوم ، سيجد ان الشاعر السقاف قد تنبأ بكل ذلك قبل اكثر من عقدين ، حين كتب قصائد ديوانه بين عامي 2002و2003 ونشره عام 2008م
  واذ يصعقه تخلي المدينة عن بساطتها ، عواطفها ، ومشاعرها ، واستبدالها بحياة معقدة فقدت فبها طعم البسمة يسأل : ( اين ضحكة الضحى على الشفاه ، اين من اشعل الفرائح ، بضجة من الحريق ليطلق الحياة ) . لقد تغيرت المدينة ، تبدل ايقاعها ، قد تكون المدينة واحدة من المدن التي يعرفها ونعرفها ، و(هاهو يجئها عاشقا بمركب الشرود ، محملا شذا ، ربما للمرة الثانية اوالثالثة ، فيرى عريها مبعثرا سدى ، تغله القيود ) ، ولاتزال عصا الجنود تكتسب غلظتها من الدجى ) .إننا نعيش في معظمنا في ( مدن ) بلاروح ، وفي دول ذات قوانين غير ديمقراطية لاتحترم المواطن ، يلفها الخوف ، وتسيطر عليه بالقمع ! انها مدن بائسة تحمل ناسا ، لكنهم يتنقلون فيها بلا عمل ، بلا حرية ، بلا احلام ، يرفلون بالقيود ، ولايشعرون بالخلاص والراحة إلابعد ان يحصدهم الموت . اويعيشون ( فيها ) مثل الأموات يقتاتون الضعف والهوان ! 

                            ( 3)

     فأين هو الواقع الذي يخلومن بؤس ، وأين هي المدينة التي لاتغتال فيها الأمنيات اولاتموت الاحلام ..خاصة في بلادنا العربية ؟ وفي عالمنا المسمى تلطفا بالثالث اوالنامي عموما ؟! 
 ان واقعنا وتاريخنا منذ عقود هو تاريخ الهزائم ، وواقع الأحزان، والليل الطويل الذي لاينجلي ! فالفقر سيدنا..وعاشقنا ، وحال امتنا هوحال العجز، والخوف ، والقهر ، انه واقع مؤلم يثير الشفقة ، ومالم نسع إلى تغييره فانه سيصبح اكثر بؤسا وشقاء مماهوعليه اليوم ، ولايمكن الركون إلى تغيير يأتي من غيرنا، اوبصورة تلقائية . ان الاعتراف بالمرض ، اوبوجود ازمة ، اول علامات العافية ، لأنه ينقل المريض من حالة النكران ، اواجترار الألم بصمت ، إلى مرحلة البحث عن طبيب وعلاج ودواء حتى لايودي به مرضه إلى الموت . 
  من القلق ، والخوف على مصير وطنه وشعبه وأمته ، وعلى الإنسان فردا وجماعة ، وعلى المستقبل من قادم مرعب ، نعيش بعض فصوله ، يضع عبد الرحمن السقاف قبل رحيله ، ويصيغ اسئلة في كل الاتجاهات . فهذا الواقع البائس ، والظروف القاهرة التي تحيط بالناس من جهل وفقر وتعصب وثأر وارهاب وحروب ، واستبداد الانظمة وعجزها عن احداث تنمية فعلية ، وايجاد مجتمع مدني ، وتخلف التعليم ، وتفشي الامراض ، وسواها من المثالب تثير اشد حالات القلق والخوف ، ومشروعية الأسئلة بحثا عن حل اومخرج ، لان مثل هذا الواقع يدفن الامال ، ويغتال الاحلام ، وينهش بانيابه الروح والجسد ، ولاينمو في ظله شيء نظيف . واول ضحاياه القلوب الرقيقة ، والنفوس الطاهرة ، والقيم النبيلة ، والروح التي تضيء العتمة ، وحقول المحبة ، واحلام البسطاء .
                               (4) 
 
   حال يبدأ عبد الرحمن السقاف اسئلته فانه يبدأها من ( اعراس الجراح ) قصيدته الأولى في الديوان بعد افتتاحية ( ضوع النهار ) فيسأل : 
  " ماذا لقيت...
من رحلة تعبت من الضجر الثكول 
مدت بيارقها السنون على النزيف 
ومضت في ارق الفصول ."
   رحلة كهذه لن تودي به إلا إلى ( افق سراب ). فماذا يمكن ان يلقى الشاعر من (رحلة الحزن الكسيف ) سوى ماحملته سفائن رحلته من ( عرائس الريح / واعراس الجراح ؟ ) بعد ان تعبت على القلوع ايامه ، وايامنا ايضا ! 
  وإذيخرج من رحلته تلك مثخنا بالجراح ، فانه بعد وقائع رحلة أليمة ومؤلمة في ( بعد بكاء الطلل ) لايزال يسأل إن كان مساؤه سيصفو ، ويدنوإلى الكاس عمره / ويغمس في النهر / حضن التحايا / وبعد التنائي ) ويقدر ان يرمي ( قميص الرحيل على ضفتيه ؟) وطبعا ليس واثقا بأنه سيكون قادرا على العودة إلى حبيبه بعد كل ماعانى منه : ( ابعد التنائي / اعود اليك / ونبعي / وبعد انطفائي / ودمعي / اعود شموسا / كطبيعي / اغني لديك ؟)
  وتستمر رحلة العمر والتعب ، فتعمق الاسئلة في ( بعد هذا الرحيل ) : إلآم انتهينا / الآم انتهت رحلة عذبت / نهدةالبلبل / فوق جدع العمر؟ ).. لقد شرقت وغربت ، واستباح المساء عشه وفرشه والتعب خيله ، وتحول التعب ذاته إلى ( مركب مبحر بين صمت القرى ) وإلى شاطىء لايقر / اويفر../ من دموع الرحيل ) 
مركب التعب هذا الى اين سيؤدي : ( وانتهينا إلى اي بر .. إلى/ اي شيء خطا لحن هذا الكنار ؟ ) . ايفتح باب الشذا ، ليهطل فينا ضحى الياسمين ، ويمسح وجه الندا ؟).
  " فأي الطريقين نسلك 
 واي الطريقين تمضي القوافي 
 اتقتحم التعب الأغنيات 
 ام نخب إلى رعشة الروح 
 واي الطريقين انقى ؟ ) .
 فلايوجد سواهما : ( طريق التحدي / نضج خطاه / تدق السواعد منه /- في لحنه - باب هذا العرق / في قرى ذابلة / ليصحونهارعلى حين غرة / وتندفع الأمنيات / وارفات الظلال ) 
  هذا هو الطريق الأول فكيف يكون الطريق الثاني ؟ ..
  انه (طريق تورد خده / وايقظ شتلاعميق المعاني / يمشي الهوينا / نقي المحيا / بعيد الخيال / غني الصور / يشق ويرقى / إلى سدرة الاحتمال / يغوص ويبعد / عن معركات هموم الشقاة ، وعن مفردات الشوارع ) فأي الطريقين امضى / وأي السبيلين يختار ؟ ) لحن الشاعر ؟ إلى اين يكون انحيازهم ؟ الى اي هم سيخطون ؟ ( لهم القرى العاطلات / في حياة الخدر / بين قات ..خمول )  ، (ام  لهم الصور / في ضحى الفاتنات / كي تجد المعاني / وتأتي اللغة / من جميع الجهات ؟).. ويظل السؤال مفتوحا ( إلى ماانتهينا / الى اي شط رسونا / بعد عمر الهديل / وماذا يقول الشذا للندى / بعد هذا الرحيل ؟).
                            ( 5)
 ويظل سؤال الشاعرعبد الرحمن السقاف حاضرا في كل قصائد ديوانه ( مدينة. بلا ييوت ) ففي قصيدة ( ايها الحب اتئد ) يقول او يسأل : ( ابعد ماذا ؟ / جئت تهزج بالحنين ؟ ) . لقد جفت الينابيع ، ضاقت به السنون ، تعب خيله / وزهرته ذبلت ، ) اواطفأ لهب قلبه . انه هزج متأخر بالحنين ، فلم يعد فيه اي شيء يستحث الروح . فالعمر ذوى ، والمنى تندفع في بقايا العمر ! وهاهو يطلب منه ان يتئد ، فهذا الحنين قد جاء في غير زمانه ، وغير مكانه . وينصحه بالعودة الى دنياه ، بعد ان تبادلاهو والحنين اسرار الانين ، ويسأله : ( بعد ماذا ؟ / جئت تهرج بالحنين ) ويأمره ( ايها الحب اتئد ) . لقد شاخت المنى وانسل العمر ، وغادره القمر، ولم يعد ( غير نجم خامل الضوء ، شقي يحتضر ) ..وهاهو يطالبه ، اويأمره  بحزم : ( قف بعيدا . ليس في القلب إلا/ لحن وهم منكسر ) . فبعد ذهاب الشباب والزحف نحو الشيخوخة ، وانسلال العمر لم يعد قادرا على الحب ، خفت ضؤه ، واكتمل الزيت في سراجه ، وهاهو مجرد شقي يحتضر ..
  تبقى الاسئلة جزء من قلق الحاضر في جل قصائد الديوان ، وإبرازا لقيمة جمالية جديدة تدعوللتأمل والنقاش ولاتحيد عن النص من بدايته الى نهايته . وهواسلوب ونهج معين يصر عليه الشاعر عبد الرحمن السقاف في هذا الديوان ، ليقترب منا ، اويقربنا إلى عالمه المشحون بالقلق والأسئلة ، بوصفنا شركاءه في التفكير والبحث عن اجوبة وحلول . 
  في ( حيرة ) - حامل النار - يواصل أسئلته : ( لمن لهواش شهوتك على الكراس / لمن تنثال في احراش غاباتك / مواويل انشداه النار / لمن بهجاتك الثرة / تزف العطر نشوانا / على الاوراق مخضرة) . ومن الضروري ان يواصل أسئلته الحائرة : ( لمن ياشارد الوهم ارتعاشاتك / إذا مرت ضفاف الحلم / في حاراتك مرة ) . ولما كان يصعب على حامل النار ضبط طقوسه الغريبة ، فان ذلك يستدعي من الشاعر تحذيره بصورة حاسمة : ( لمن هذا النزيف إذن ؟ / إذا مالت حبيباتك / إلى ليلاتها المرة / وعدت من رحيل العمر / بلاشال ( يدفي ) الروح / ولاعشق يضج بك / ويحملك على خيل من البشرى ؟ ).
  ماجدوى ان يعرض كل كنوزه ، وبهجاته ، ارتعاشاته ، اذا كان غيرقادر على ايجاد من يتدفأ بنار اشجانه ، ويكتبه تلاحينا على صدره ؟ ا