يرفع عبد الرحمن السقاف من قيمة الشعر والغناء ، فهما يقدران على تعرية الواقع المزري ، وسرج حصان الرفض . ففي قصيدة ( هذا الشعر ..ياامرأالقيس )
لايتوقف السقاف عن طرح أسئلة القلق الجدلية عبر التواصل التاريخي والتراثي مع "ملك الشعراء " امرىء القيس ، لاليدلل على ارتباط الحاضر بالماضي ، بل ليعيب علينا اننا لم نستطع الانكفاء عن ذلك الماضي البعيد . فيستحضر امرأ القيس ويسائله : ( إلى متى .. ليل ولاانجلى ) في إشارة إلى معلقته ( الاايها الليل الطويل ..الا فانجلي ) ، وباعتباره خيرمن غنى الطلل . ولأن الشعر بالنسبة للسقاف مساءلة ، هاهو يضعه في صلب واقعنا في نهايات القرن العشرين ومطلع الألفية الجديدة ، ليرى اننا لانزال نعيش مفاهيم الواقع القديمة ، مازلنا نبكي على الأطلال ، ونعطل العقل وشعر الفعل : ( ياامرأ القيس الليالي غافيات / ذبلت رجولتنا / والخصب يذوي في السنين / رحلت دواليه / والشتل يرحل في مساء / ضامر الوجه / خطوة نبكي على الاطلال / والأخرى مسمرة على الحزن ) .
  وهذا الامر يراه الشاعر السقاف غير طبيعي ، فإلى متى سنظل نبكي على الأطلال ؟ والى متى نتسربل في الحزن ؟ 
 ( حتى متى ياامرأ القيس تغني للطلل / والشدوماانحلت جدائله / يذوي مع الريح الصموت ) ف ( عنيزة بعدت بهاالخطوات 
/ والدار نائية عن القلب / عمق حزنها هجر من الاصباح ) ..
وبمزيد من التوضيح يقول : ( لقد تمطى الليل فوق اصوات الحمام ) وعطفا عليه :  ( فلا الطير غرد عند ساقية / ولاحقلا تمشى في الفؤاد) ف ( ماذا تبقى للمغني ؟ ولأرصفة الحداد ؟ ) سوى ان يكون ( الفقر سيدنا وعاشقنا ) وان ( يستبد الخوف في شتلات / حارتنا ) و ( يهرب المطر الشحيح / من قرى الروح ) و( يتلظى النهار ، وعيون اطفال المدينة / لاترى / غير احلام تيبس عودها ! ) .
  فحين تضمر شحارير القرى ، وتفتر شبابة الحادي , وتشح مقلتاه ماذا يمكن لنا ان نرى ؟ ماذا يمكن ان يعيش في هذه الأرض اليباب غير شبح " القات " الذي ينخر في امانينا ، ويجتز احلى الشقشقات من صباحاتنا الكليلة ؟ لقد اتضحت الصورة ، وصار الشعور بوطأة الواقع الذي يزداد قتامة ، اكثر قابلية للفهم بدء من البكاء على الطلل ، وهاهو السقاف يعمق هذا الشعور في الذات بشكل اكثر عمقا وتأثيرا ، فلايكتفي بتلك الصورة التي سبق ورسمها للحال الذي اصبح عليه حاضرنا ، بل يستمر في تفصيله وتعميقه ، لإثارة المزيد من الإحساس وتعميق الوعي به ، وتوسيع حدود المعرفة ، وهنا لايحكي ماضيا اليما ، بل يقرر واقعا اشد إيلاما : ( تعبت قوافلنا من السفر العقيم ) ونشيد امرا القيس لم يعد يغري ، والخيل اضنتها المسافة ، لم تعد قادرة على الكر والفر : ( ماذا تبقى غير رابية / ضجت من الألم / وهدتها السنون ) ؟  
  لابد من الإقرار بعجزخيول العرب عن فك حصار الزقزقات ، وان عصافير الندى طارت تلبية لنداء القفر . وازداد الإحساس بالمرارة : ( فلا عادت كؤوسك / ياامرأ القيس تغري صبايانا / ولاصور وأوزان / تضمخنا كما كانت / باشداء وحناء الفرح ) . وهاهو يصارحه بأن مراياه قد عتمت ، وانه لم يترك لنا النهر لترى الصبايا أنفسهن فيه ، ويسكبن شتل الروح ، ولم يسد لنا شيئا يعمق صوتنا ، في حقول خضر ، تعلينا إلى دنيا العبير .

                                (2)

  ان الجفاف واليباس لم يصب الأرض وحدها ، وهي رمز للخصب والعطاء ، بل انهما اصابا الروح قبل ذلك ، فلابد ان يعم الخراب ليشمل ترائب النسوة رمزالخصوبة والحياة والولادة : ( هذا ترائب نسوة / خربة ولم تتيقظ النسمات / في نهر لتشعل غيمة اخرى / لتدعو الصلب كي يشرب القهوة / بخيمتها ! ) وليست الترائب وحدها ، بل الرجال ايضا فترت خصوبتهم ، وتيبست اصلابهم : ( نامت خيولهمو الرجال/ ولم تدرك مدى الخطر / المحدق بالحياة ) . في واقع كهذا تموت فيه خصوبة الأرض ، والترائب والأصلاب 
.اي حياة ترتجى ؟!  وانى للغيمة ان تشتعل وتمطر من جديد بدون برق ، ومن اين سيأتي المطر ، إذاكان النهر جافا ، ولاامكانية لعملية تبخر تؤدي الى تكثف وتكون سحب ، وإلى رعد وبرق ومطر ؟
  وأنى للنساء ان يرغبن في الرجال ، ويدعونهم لشرب القهوة في خيامهن ، بعد ان فترت خصوبة الترائب ، وتيبست الأصلاب :
  ( وماذا تبقى كي نغنيه 
  وماذا يوقظ الشهوات 
كي تدنو من الألم 
 لتعرف الهزيمة بالرجال ؟ ) .
  هذا واقع فضائحي لايمكن إخفاؤه اونكرانه ، اوتخبئته : ( مادا تبقى كي نخبئه / وقد عرفت بوادي التيه / بقصتنا ؟) لم يعد ثمة احد يمكنه البكاء علينا ، بل نحن جديرون بالإهمال ،  والرثاء ! وحدها : ( حمامة عبرت / على حزن الجبال ) .. رثت لحالنا ( وقد دمعت لقهر الروح ) وقد هالها مارأت ( فاستيقنت انها عبرت قرى مقتولة / مذبوحة القلب ! ) لاحياة فيها ويلفها الخراب..
 لقد عمق السقاف الواقع / الماساة ، بمهارة الشاعر الحقيقي ، لحظة بلحظة بصبر ، وتدفق ليتمكن المتلقي من القبض على الجوهر ، عبر فضاء شعري اتاح له الكشف المتتالي لعوالمه ، وتعرية قتامة الواقع إلى درجةبلوغه العقم . ويقول لنا بصراحة ووضوح ان هذا العقم ، لايمكن ان يعالجه عاجز اوعنين اومخصِِ :
  ( بلا خطو يحرك الغضب 
  ويمتشق الكلام ...
 هذا الراكب صهوة الرفض 
 يعمقها بين همس الناس 
  ليرتد المساء إلى وراء ) .
  لم يبق إلانوعان ، واحد يركب حصان الرفض ، ويمتشق سيف الكلام ، يحركه غضبه على سوء الحال ، ولكنه واقف في مكانه لايحرك ساكنا ، ولايخطو خطوة ، فهوعاجز . وكل مايقدرعليه انه يعمق الماساة بين همس الناس الذين لايملكون ولايقدرون على سواه ، فهم على نفس الدرجة من العجز والعقم ..وهذا هو النوع الثاني .
  وهاهو السقاف بعد ان رسم لنا صورة الواقع على ذلك النحوالذي ذبلت فيه الرجولة ، وماتت فيه خصوبة الأرض والترائب ، والخطر الذي اصاب الحياة ، وعم فيه الخراب كل شيءتقريبا ..
وكاشفنا بما اصبحنا عليه من عقم وعجز ، هاهو ذا يعيد إلى الشعر دوره ووهجه الذي كاد يفقده ، اوتاه عنه إلى حين : 
  ( ماذا تبقى ياامرأالقيس
  سوى ان يسبق الشعر الخطى 
 زحفا إلى السيف 
 ويكسر الكاس الذي 
  اسكر الصمت 
  وعربد الخيال ) 
  ولكن اي شعر يقدر على ذلك ؟ 
  ليس كل الشعر ..! 
  هاهو السقاف يطلب من امرىء القيس ان يكسر كؤوسه هاهنا ، وان يرمي بحانات الصور ، فماعادت خيمة الشعر تطعمنا ، نستقي يمامات الورود ! وماعدنا نرتقي الدنيا ، بقامات الخيال . 
  وهاهو يعلن بما هو يقينه : ( الشعر هودجنا وبيرقنا إلى الفعل ) لكنه يؤكد في ذات الوقت ان ( الشعر لايرقى ،إلا إذا غنت حماماته ، عن مرارات القيود ) إذن ليس اي شعر ، ولااي شاعر . بل ذلك الذي يزداد به يقينا فوق يقينه ، بان الشعر كما يراه ، وكما ينبغي ان يكون لايزال له دور لتعرية الواقع ، واستنهاض الأمة ، إلى الفعل والتغيير ، لكنها لن تكون قادرة على ذلك مالم تتحرر من الخوف ، والخنوع ، والاستسلام ..مالم تغير نفسها اولاََ ، وتصير حرة في داخلها ، فالشعوب الحرة وحدها تقدر على امتلاك إرادتها ومباشرة فعل التغيير ، وكسر قيودها ، وامتلاك مصيرها بيدها ، وبناء الحياة الكريمة التي تليق بها .
                         (3)
                              
   كان الفكر ، والشعر سباقين على الدوام ، يالدعوة إلى التغيير ، والتصريح بأماني البسطاء بالحياة الحرة الكريمة ، وفتح الآفاق امام آمال وتطلعات الناس : ( والبسطاء ماناموا / ايقظتهم دمعة حرى / ومسكنة وخوف ) . فيعيب  السقاف على الشعر بعد ان تخلى عن دوره الطليعي في تعرية الواقع ، والدعوة إلى التغيير ، وقصر دوره على البكاء على الطلل وعلى الماضي ، اوعلى المديح، اوالنوم في عسل السلطان ، وهاهو السقاف يصارح الشعراء عبر مخاطبته لامرىء القيس بأن الوقوف على اعتاب الذكريات لانفع منه ، ولابد للشعر ان يرتدي دورا آخر .. 
 ( طالت مدامعنا ../ ولاانجلت الليالي / والخطى ضمرت مآقيها / ولم تشرب صبايانا الصباح ). ويعود إلى سؤاله : ( ماذا تبقى كي نخبئه ولاانفجرت بقافية رياح / ماذا تبقى كي نواري / سؤة الحزن ; وتنكفىء بداخلنا مساءات الجراح ) .. ( ماذا تبقى كي نحط الصمت / وننشغل باسياف نحملها شقاءات القرى / كي يدب الرفض في دمنا / وتمتزج بحلم التائقين / إلى الحياة ) ولكي نستعيد دور الشعر ، ليمتزج بحلم البسطاء والتائقين إلى الحياة ، ولكي يدب الرفض في دمنا الجامد اوالمتجمد ، لإحداث التغيير المنشود لابد من ان يغادر ماانشغل به عن دوره ووظيفته : ( فاطرح قوافي العسجد الخمري إمرأالقيس / وغن في انشراحات فصاح / كي يهب الحقل من دمنا / ويرتعش المطر ) . فليس غير شعر من هذا النوع بقادر أن ( " نسوي " الشعر مهرتنا ) ، و( نرتاد الخطر ) وحتى يكون الشاعر جديرا وقادرا على القيام بذلك ، ويعي مسؤوليته وريادته ، ويقوم بدوره بمهارة ويتصدي لمهمته الخطيرة التي تتطلب الوعي الكامل ، فعليه ان يترك الإنشغال بالملذات ، ويدرك ان اليوم أمر وليس الغد ! : ( فاكسر كؤوسك هاهنا / وارم بحانات الصور ماعادت خيمة الشعر تطعمنا / تستقي منها يمامات الورود / ماعدنا نرتقي الدنيا / بقامات الخيال / او يظللنا برود ) . 
  يختتم السقاف قصيدته : ( هذا الشعر ...ياامرأالقيس ) التي بدأها بالسؤال ، والأسئلة المؤرقة وعن جدوى الشعر في واقع يذوي ، وارض يباب ، خرب فيها كل شيء تقريبا ، اوجدوى الاستمرار في البكاء على الطلل ..يختتمها باليقين بجدوى الشعر وبدوره ووظيفته : ( فالشعر هودجنا وبيرقنا 
  إلى الفعل 
. والشعر لايرقى 
  إلا إذا غنت حماماته 
  عن مرارات القيود ) 
 فالصمت لايجديه ولايليق به ، ولاالهروب سواء إلى الطلل / او الى ذهب القصور .. لابد ان يكون حرا ، يمتلك خياره ، ويحطم كل القيود التي كبلته ، لكي يكون قادرا على تحريض. الآخرين على كسرقيودهم .