لعبت صهاريج الطويلة في كريتر - عدن ، دورا في التاريخ القديم للمدينة في عملية الري وتلبية حاجات السكان للماء ..وقد حفروها في عمق الجبل ، والصخر الصلد في نظام تقني بديع لحفظ المياه المتساقطة من الامطار وتكون السيول ، وعبر الزمن تراجع دورها مع إنشاء وسائل اخرى لحفظ وتوزيع المياه ، لكنها بقيت كشاهد واثر عظيم على عظمة المهندس والانسان في هذه المدينة .
   في قصيدة ( صهريج ) يسمع عبد الرحمن السقاف انة الصخرة فيستدعي احقابا من تاريخها حين كانت تمد الحارة والناس بالماء والأمنيات ، وتزرع ربيع الأشجار ، وتوقظ زهر الكستناء في حوافي المطر .
  لقد اختفى كل ذلك التاريخ ، ورأى الشاعر في زيارة لصهاريج الطويلة ، حاضرا لايعكس ماضيها الزاهي . جف ماؤها ، ولف الصخر اليباس ، والآن تئن ، تبكي ، وتتألم حزينة .
  ولانه شاعر ، وليس سائحا ، اوزائرا عابرا ، فان ظاهر الأشياء لايثير اهتمامه كثيرا ، بل ينفذ إلى عمقها ، ليرى ماهو جوهري ، فيلفه الحزن بدلامن الدهشة المفترضة ، والإنبهار المفترض بعظمة الصهاريج مع ماتعنيه من تاريخ ودلالات حضارية ، وعبقرية هندسية ، فيذهب الى تشكيل قصيدته عبر فضاء نصي لايتخلى فيه عن شاغله المركزي ، بطرح الأسئلة وفتح الآفاق امام القاريءللتأمل والتفكير
 .. وبالتالي تحريضه على الإقدام على الفعل : 
  ( ماالذي ذل وردا شفيف 
  في سنى برقه ؟ 
  ماالذي اطفأ البسمة 
   عند ماء الصخور ؟ 
  ماالذي فتت الفرحة 
  تحت ليل غفا في سكون ؟ 
  ماالذي شرد الأمنيات 
  في ربيع العيون ) .
   إن الصهريج ، اوالصهاريج الكائنة في (الطويلة ) بكريتر - عدن. ليست مجرد الصخر بالنسبة للشاعر ، لكنها الحياة . والصورة التي رآها عليها ، لاتتسق مع الصورة اوالرؤية الكامنة في ذهنه ، وهي صورة كونها الذهن التاريخي حين كانت حاضرة بقوة ، ومصدرا لمد المدينة والسكان بالماء ، وتتدفق من خلالها الحياة ، وهو دور اطاح به الواقع الذي تشكل بعد ذلك ، باستحداث مصادر بديلة لخزن المياه ومد المدينة والسكان ، فلم يبق للصهاريج إلا الذكريات المنقضية ، والسكون بالأسى ، ليس بسبب ذلك فقط ، بل اكثر من ذلك الاهمال وسوء الأوضاع : 
   ( إن صعدت ارى / عشب فجر الندى حائرا / جفت النبضة / في مهاوي الجنون ) ثمة مشهد مختلف ، لكنه مؤلم ، فالصهاريج التي كانت تمثل مصدر الحياة للمدينة ، وواكبت مسار تطورها التاريخي لقرون ، غدت مجرد صخرة صماء ، والجبال التي مدت الشعلة ، في الدجى ترتجف : 
( انطفت في زوايا الغبار 
  والجبال التي مدت الشعلة 
  يوم كان المطر
  عاشقا الغصون 
" شلتها " في الدجى ترتجف ) .
  لكن تلك الصورة التي عاشها الشاعر خلال زيارته للصهاريج ، ونقلها لنا عبر قصيدته ، ومن خلالها الخراب الذي اصبحت عليه ، لنشعر معه بأنينها ، وكيف ( غادرت حيها الدفقة الوارفة / وانطفى جدول في ربيع الشجر / وانزوت مهرة / خطوها في سقم ) ليست سوى الإنطلاق والمدخل لاسثلته القادمة . فلايمكن للشاعر السقاف ان يرى كل ذلك دون ان يستفزه ، ويستفزنا بالأسئلة ، ويوجه لنا باصبع المسؤولية: 
  ( مالهذي الجبال 
  ترقد ..
  مالها من يدق الذرى 
  في صميم الحجر 
  كي تقف 
  مالصهريجنا..
  لايضخ الحياة 
  مثلما كانه في الزمان 
  لايجف ) .
  يعرف السقاف كيف يستفزنا بهدوء ، ورقة شاعرية ، فيرمي في وجوهنا بقفازه الناعم ، فلايكتفي بتخليق ذلك المناخ الراكد الخالي من الحياة ، بل يضعنا في اتون التحدي : (...من يدق الذرى في صميم الحجر / كي تقف ؟). لانظنه يوجه سؤاله إلى الصخر / الصهريج ، بل لنا . انه يستفزنا ..يستفز إرادتنا ، ويهيب بنا لننهض ، فمن غيرنا يمكن ان يدق الذرى ؟. ومن غيرنا يستطيع ان يضخ الحياة في مدينتنا ، بلادنا ، فلاتجف فيها الحياة كما جفت المياه في الصهريج ؟!  
ان مجدا صنعه الأجداد ، لاقيمة له ، إلامن حيث الفترة التاريخية التي عاصرها ، ولافضل لنا مالم نصنع مجدنا !  ليس ذلك فحسب ، بل ان السقاف يتخذ من ال (صهريج ) معادلا لواقعنا في توظيف متكافيء للعلاقة الجدلية بين زمنين ، الزمن التاريخي حين كان الصهريج يضخ الحياة ، ويمد الحارة - المدينة بالامنيات والمياه ، والشجر، والدفقة الوارفة ، والفرح ، والبسمة . والزمن الراهن ، زمن الجفاف ، وانطفاء الجداول ، والألم ، والحزن ، والسقم ، والعدم ، وجف النبض في مهاوي الجنون !
  يقدم لنا عبد الرحمن السقاف باناوراما كاملة عن حياتنا المعاصرة ، عبر واقع الصهاريج ..بل ان واقعنا هذه الأيام اعقد واخطر .. ومن هنا صرخته ، ودعوته : من يدق الذرى في صميم الحجر ؟! 
فهل سمعنا صرخته ، ام ان قلوبنا قدت من حجر صوان ؟! وماذا كان سيقول لنا السقاف لو عاش حتى يرى وضعنا الراهن ، ومانحن عليه من بؤس ؟!!

                               (2)
  لاتخلو قصائد ديوان ( مدينة بلابيوت ) من الحزن ، الدموع ، الجروح ، والذهول ، وايضا من الأسئلة كماهو دأبه في غالبية قصائد ديوانه التي يلامس من خلالها حياتنا وواقعنا دون رتوش ولامكياج ، لكي يضعنا امامه وجها لوجه ، وعقدة بعقدة . فيستحث تفكيرنا عبر اسئلته ، لنشاركه البحث عن حلول واجوبة بدونها لن نصل إلى تغيير واقعنا البائس .  السقاف وبحساسية الشاعر ، يطرح قضايا واقعنا وينبهنا إلى عدم السكوت على مكامن الاخطاء والسلبيات ، ويحذرنا مما سيكون عليه المستقبل إذا مابقينا ندفن رؤوسنا في الرمال ...
   وإذا مااخذنا بعين الإعتبار الزمن الذي كتب فيه الشاعر السقاف قصائد ديوانه ، بعد حرب صيف العام 1994 العدوانية ضد الجنوب ، فان كثيرا مما حذر منه في قصائده ، قد تحقق ، وصرنا نعيشها ، ونعاني تبعاتها ، ومراراتها ، وماانتجته من إفرازات ، سبق للشاعر ان دق اجراس الإنذار قبل ان تقع ، لكنه كان يقرأ إرهاصاتها ، وبعد نحو عقدين من كتابتها ونشرها في ديوان تكتسب قصائده وتحذيراته مصداقيتها ، وقدرته التنبؤية ، كما تكتسب دعوته إلى الوقوف امام الواقع وتعقيداته ، وتحذيراته من آت اسوأ حظها الكبير من الصدقية ....
  
    يؤمن الشاعر عبد الرحمن السقاف ، بأن الشعر يتجدد كالحياة تماما ، في الشكل والمضمون والروح . وهذا مافعله في ديوانه ( مدينة بلابيوت ) ..كما يؤكد ان الشعر بوصفه ادبا وفنا فانه ايضا رسالة اجتماعية ، وبقدر مايلامس نقاط ضعف المجتمع ، ومثالب الواقع وتعريتها ، والدعوة إلى التخلص منها ، بقدر مايقترب من الناس . وان الشعر مايزال قادرا على التعبير عن قضايا وهموم ومشاكل الناس ، وفضح وتعرية الظلم والقهر والإنحياز إلى احلام واماني البسطاء والمقهورين ، وان دوره لم يتراجع ، فلازال له مكان في الطليعة ، ومواكبة الحياة ، وتحفيز العقول ، بنفس القدرالذي يعبر فيه عن الوجدان والعاطفة النبيلة ، والربط بين الشعر والحياة والناس ممايعمق فكرة المشاركة التي تميز قصائد ديوانه ، وهو ماارى فيه رفضا وتمردا وتحريضا على الفعل لتغيير الواقع ، مستخدما لغة الشعر ، ورقة وقوة الكلمة بكل مافي الكلمة من صهيل .
                                 (3)
  
 ولاتخلو ( فراشة العمر الجميل ) من  الحزن ، الدموع ، الجروح ، والذهول ، وايضا من الاسئلة التي يستمر الشاعر في طرحها لكي يستجيب لمتطلبات اللحظة ، ويستفز عقولنا، فنشترك معه في البحث عن اجوبة وحلول بدونها لن نصل الى مانريد ..انه بحساسية الشاعر يرى مالانرى، واكثر ممانرى ، وبصورة لانراها عليها . انه ضميرنا ، لكنه ليس ملزما بتقديم الأجوبة نيابة عنا ، او باقتراح الحلول ، ولكن باستثارة انتباهنا ، وتحفيزنا على التفكير ، والتحريض ، والبحث عن اجوبة وحلول لمعضلاتنا تفتح الأبواب امامنا حتى تزول الحيرة . وهو يفعل ذلك برغم الآمه التي يتحملها من اجلنا ، والحزن الذي يلفه ، وحتى الخيبات التي مني بها هنا وهناك :(وحدك والمساء المر يحصدك / وينخر في المنى حزن / سالت ضفاف الحلم / كبريتا ونارا / مااضيق الصدر / إذاأنطفأت / جذوة الريح / ولم تشعل طلاوتها الحنين / إلى الضياء / مااضيع الزمن / إذا اختارت قصائده الرجوع / وحدي والمساء تجرحني يداه / وتسحقني الدموع ) .
  ثم يأتي دور الأسئلة ، باتساق مع مجمل قصائد الديوان :  
    من اين ابدأ بالرحيل 
  والنهر قد فر من اليدين
  إلى الضلوع 
   هذا دمي 
   فلتحمليه هوا
   خيلا تداهم سطوة الليل وتنشر الربوع 
   إلى الشروع
  في خفقة الإبحار 
  وينفتح المدى 
  وردا يداعب مقلتيك 
  هذا دمي 
  فلتنجزيه مواعدا 
  او فلتقصفيه سواعدا
  املا يشب على الهوى 
  يجري إلى فل الحديث 
  مع الحقول 
  وحدي والمساء يقتفي اثري 
  ويرمقني الذبول 
  ماذا اقول ؟
  هل ضاقت الأرض
  بتاريخي 
  وآثار التوثب في الحياة 
 ونسيت صاعقة الخيول 
  ماذا تقول فراشة " العمر الجميل " 
  رضيت بانصاف الحلول 
  ام طارت ضوء الكلام مع الحمام 
  من غير متكىء 
  على نهر يصوغ حلمها ؟
   والكلام لقد يطول ..
    ماذا اقول ؟
    اني قد سالت عن القصائد والجرايد 
 والطلول 
  وسألت عن معنى الأصول 
  ووقفت في باب السؤال معلقا 
  ودمي ذهول 
  كتبوا على صدري : ممنوع الدخول ) .
    ما اصعب الأمر ، وأمر الأسئلة عندما يسأل الشاعر الترنم والعبير عن ( تلك الصباحات التي مرت بقافلته وطناونور ، يسألها : ( مالي ارى الضوء ينسحب إلى وراء ، يركض للأفول ، ) . ( مالي ارى زورق الجنات منسكبا سراب ؟.. ) لايبقى حينئذ سوى ان يدنو الخريف من القلوب ، وتفر دنى الاحلام من يدنا ، ولا احد مسؤولا عن هذا المنال سوانا ، لأننا( ضيعنا المزاهر والتراث ) .
  وهكذا يواصل السقاف أسئلته بحثا عن جواب : ماذا تقول فراشة العبق السحيق ؟ حين يكف الانسان عن الحلم ، او لاتصور لديه لأحلام يسعى لتحقيقها ، فإن الصدر يضيق ، وإذا ضاق الصدر لم يعد يتسع لشيء ، وكف القلب عن الحلم ، ولم يعد حامله جديرا بالحياة ، لانه بالحلم او لنقل الأمل وحده يشتعل الحريق ، وينفتح الطريق .
  الاخرون لايرون إنسداد الأفق ، ووحده الشاعر يرى الخطر الماثل ، وحده يرى النهر منغلقا عليه ، ورطانة النهر تنهض بالدماء ، وكأن القوم استمرأوا اعشاب الدماء ! لكن ...( ماذا لقي .... رجل تقحم. خيله التعب / وضجت مهرة الريح به / والقى صدره نارا / ماذا لقي ؟). ( غير ضوء حاصر دمعه / واعطاه انتشارا / وفراشة " العمر الجميل " / ضوء يراودها / لينبثق النخيل ) وعليه وحده ان يقرر ماذا يختار .. وقد اختار النهار مطيته ، والركض ..في صباحات ويحمله الصهيل .