محمدعمربحاح/ عصام خليدي :

   ونجد حالة مماثلةلحالة اغنية ( صدفة )، لاتقل عنها روعة في لغتها الشاعرة ، اوفي صورها البديعة في نص الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة ( وقفة ) ، وهي اول مالحن له الفنان الكبير محمد مرشد ناجي . وفي حين ان النص المشار إليه ، ( صدفة التقينا )والذي ابدعه لطفي جعفر امان ، ينهض على اللهجة والإشتغال على المفردة العامية ، فان نص الجرادة ينهض على اللغة الفصحى في جمله ، وتراكيبه ، وصوره ليشكل من قصيدته جمالية اكثر إتساعا من مداها المقروء . وفيما ان لقاء لطفي مع كائنه تم صدفة ، على الساحل ، فان لقاء الجرادة مع محبوبه ، تم في الصحراء عن سابق معرفة ، وحسب موعد متفق عليه بينهما ، لذلك فان لغته ومفرداته ستكون مختلفةلإقامة - ليس طقوسهما العشقية فحسب ، بل ايضا لاقامة طقوسه اللغوية وصوره المنسجمة مع هذه الحالة .
 ( هي وقفة لي لست انسى ذكرها انا والحبيب 
  في ليلة رقصت من الأضواء في ثوب قشيب ) 
  فثمة دلالات في مطلع النص على الزمان الذي يفضل الشاعر ان يخبرنا عنه ، مرجئا المكان لإخبارنا عنه إلى وقت آخر ، لكنه قبل ان يخبرنا عن الزمان والمكان فإن إحساسه بروعة اللحظة التي يعيشها مع حبيب القلب هي التي تستأثر بإهتمامه اكثر من اي شيء آخر ، لهذا ستكون اول مايحرص ان يعلمنا عنها لنعيشها معه كماعاشها مع معشوقه : ( هي وقفة لي  لست انسى ذكرها انا والحبيب ) . وعن حالة الشعور التي عاشها ، والتي انعكست على كل ماحوله ، فحولت الليلة إلى الرقص ، والأضواء في ثوب قشيب .
 فحال وقفة الحبيبين ، قد اسس للحظة شديدة الخصوصية ، مما سيكون عنصرا مؤسسا حاملا للبنية النصية للقصيدة بشكل عام ، فنجد الشاعر يسترسل في تصوير اللقاء - الوقفة ليجعل المتلقي يعيش معه اجواءها ، راصدا تفاصيلها ، من اللحظة التي أخبرنا عنها ، ولكن بعد ان اصبح ذكرى من الماضي لايستطيع نسيانها لاهوولا الحبيب ! 
  فالشاعر اخبرنا عن لحظة لقائه بحبيبه ، ولكن بعد ان غدا ذكرى غير قابلة للنسيان ، ومع ذلك يحرص على ان نعيش اجواءها كاملة كما عاشها : 
  ( لما التقينا والجوانح لاتكف عن الوجيب 
  فهززته وهو الرقيق كنسمة الفجر الرطيب 
 وغمرته وهو الذي لنداء قلبي يستجيب 
 بعواطفي المتكبرة ومشاعري المتفجرة وشرود وجداني الكثيب ) .
 صورة شعرية تعبر عن توهج مشاعر الشاعر ، واستعار نيران الحب في قلبه عندما يلتقي بالحبيب فالجوانح لاتكف عن الوجيب ، وتدل على حرص الشاعر على امثلاك لحظته الإبداعية لكي يعيشها كاملة بدون نقصان مع حبيبه الطيع بين يديه فهو الرقيق كنسمة البحر الرطيب ، وهو المستجيب لنداء قلبه عندما يغمره بحبه وبعواطفه المتكبرة ومشاعره المتفجرةوشرود وجدانه .
( جو غنائي سبحنا في محيط من سناه
 لما اقتعدنا الرمل في قفر ترامى جانباه 
 لمعت في ايدينا الكؤوس واجرت النغم الشفاه
 ورأيته سحر الجمال وفتنة الغزل الخصيب 
  والخمر قد عكست على وجناته شفق المغيب ) .
  وفي حين راينا لطفي اختار الساحل ( شاطيء البحر ) بكل مايوحي به البحر من جلال وسحر وجمال وروعة انعكست على اجواء لقائه وعلاقته بالحبيب الذي التقاه صدفة الا انه سرعان مايقع صريع الهوى والوداد ، وجمع الحب قلبه العاشق مع تلك التي اصبحت. الان حبببته ، فان الجرادة حسبمايوحي نص قصيدته قد اختار الصحراء : ( لما اقتعدنا الرمل في قفر ترامى جانباه ) بكل مافيها من إتساع مترامي الأطراف لايستطيع البصر ان يدرك مداه ، وبكل مافيها من غموض وسحر وعوالم مدهشة ، قد تبدو ساكنة لكنها متدفقةبالحياة والحركة ، والكائنات، مكانا يدورفيه لقاؤه مع الحبيب ، ومانظن صحراء الجرادة او( قفره) الذي ترامى جانباه) . سوى ذلك الإمتداد المكاني لسواحل البحر لتكتمل روعة المكان وروعة اللقاء .
 ولاتأتي هده الدلالات الصحراوية صدفة ، بل هي جزء من الأجواء العامة للقاء - الوقفة ، ومن الجوالعام للقصيدة ومن المشهد القصصي الذي تصوره ، والذي يبلغ ذروته في ذلك التصوير البديع عندما تنعكس حالة النشوة التي يعيشها الشاعر المحب إلى شفق انعكس على وجنات الحبيب . فحالة النشوة التي يعيشها وحدها هي التي رفعت شفق المغيب ونور البدر من حيث هما حالة طبيعية وظاهرة من ظواهرها - الطبيعة - نراهاعادة، إلى لحظة شعريةشاعرية نادرة تنعكس بنورها وبسحرها على وجه الحبيب فتزيده فتنة وجمالا .
 فالشاعر الذي شغله اللقاء ، مع حبيبه ، ولحظة الحب الصافية التي يعيشانها بشغف عن كل شيء حوله ينتبه إلى إنكشاف الجوحوله ، فيرى جمال الطبيعة ، واتساع الرقعة التي يقفان ، اويجلسان فيها ، والتي شغلته عنها الصورة الشفيفة للحبيبة ، والمشاعر والأحاسيس الجميلة التي تجعلة يعيش اللحظة دون سواها ، لكن حتى بعد ان يرى السماء بزرقتها الصافية ، ونجومها المضيئة ، وقمرها الساطع ، وقبل ذلك شفق المغيب بما لكل ذلك من سحر وشاعرية ، فإن عواطف الشاعر تتفوق عليه . كما يطغي عليه وجدانه ، فلا يرى البدر إلاحين يغمر بنوره الصبيب وجه الحبيب ، ولايحس بجمال شفق المغيب إلاحين يراه منعكسا على وجنتيه فيزيده جمالا وفتنة فوق ماله من فتنة وجمال . وهكذا يكتمل بهاؤه فيراه الشاعر سحر الجمال وفتنة الغزل الخصيب ، فهو لاينصرف إلى ماينصرف إليه عامة الناس من الإنشغال بجمال الطبيعة المحسوس إلابالقدر الذي يخدم الصورة الشفيفة للحبيب وخاصة في الجانب الجمالي .
    *****
  لحن الفنان الكبير محمد مرشد ناجي قصيدة (وقفة ) التي كانت من بواكير مالحنه للراحل الكبير محمد سعيد جرادة ، وهي التي ابرزته إلى عالم الموسيقى والغناء كفنان متميز ومجدد ، لحنها على مقام ا(لرصد / الحجاز ) . فلحن المذهب : ( هي وقفة لي لست انسى ذكرها ) على مقام  (الرصد على درجة الدو ) مع عارضة نغمة ( لا ) في كلمة ( انا والحبيب ) ، ثم ينتقل إلى مقام ( الحجازعلى الصول ) في مقاطع وابيات : ( بعواطفي المتكبرة ، ومشاعري المتفجرة ، وشرود وجداني الكثيب ) إلى ابيات : جو غنائي سبحنا في محيط من سناه / لمااقتعدنا الرمل في قفر ترامى جانباه / لمعت في ايدينا الكؤوس واجرت النغم الشفاه ) حيث يعود إلى مقام الرصد) مع الإشارة إلى انه استخدم إيقاع. (الشرح الثقيل 6/8).
*****
  
   وتذكرنا الصورة الشعرية للجرادة بانعكاس شفق المغيب على وجه الحبيب ، بصورة لاتقل عنها جمالا وشاعرية لشاعر آخر من شعراء الأغنية هو الشاعر الكبير الراحل صالح نصيب على رغم اختلاف لغتهما الشعرية بين الفصحى والعامية ، لكنهما يبلغان ذروة شعرية وصلا إليها عبر مايمتلكانه من خصوبة ذهنية ، ومخيلة تتوالد منها صور جديدة ، غير مألوفة من بنات فكرهما ، اوبنات اللحظة الشعرية التي يعيشانها ، وهي حالة ترفض الساكن اوالسكون فهما يعطيان النص حياة جديدة ترتقي إلى ذروة حالة الحب ، او 
حالة الشعر ، فالمبدع اديبا كان اوتشكيليا ، يرجع الأشكال لحظة تشكلها من الظاهر إلى الظهور ، فيكشف النقاب عن كل مالم يتم رؤيته بعد ، وعن اللا مرئي ، ومالم يسمع به قط بحسب " جاك ماريون " .
 ( وإذا ماقام من نومه مع الطير غبش 
  تشوف الورد بالباكر على خده فتش 
 تتمنى تكون شعرة في الجفون 
  تحرس ذي العيون من شر القلوب ).
 وبهذا المعنى ، فاننا ستكتشف في هذين النصين لشاعرين مختلفين وبيئتين شعريتين متباينتين إحداهما صحراوية ، والأخرى زراعية ، انهما استطاعا إعادة إكتشاف لحظة ظاهرة طبيعية تتم كل يوم كقانون من قوانين الطبيعة ، لكنهما وفي لحظة تشكل اوتولد تلك الظاهرة يريان فيها غير كل مايراه الناس .
  فحمرة شفق المغيب لحظة الغروب تنعكس على وجه الحبيب بدلا من الأفق الممتد ، والورد في لحظة تفتحه في الفجر الباكر ( يفتش ) اي يفتح اوراقه وعبقه على خد الحبيب لحظة إلتقائه في ( الغبش ) فلايتمنى الحبيب او الشاعر سوى ان يكون شعرة في جفون حبيبه ليحميه من شر الحاسدين .
  وسنجد ان هولاء الشعراء الغنائيين الكبار كانوا تصويريين كبارا ايضا ومخلصين لشعرهم والإشتغال على أغانيهم لغة ، وتصويرا ودلالات ومضامين سواءا كانت رمزية اوتعبيرية اوواقعية .
 وهذا الإخلاص لايعود إلى الموهبة وحدها ، ولكن ايضا إلى الثقافة ، وهو ما يزيد شعرهم تألقا ، ويضمن له التطور والحياة إلى اطول مدى ممكن حتى بعد ان انتقلوا إلى جوار خالقهم .
*****
 وعندما لحن الأستاذ الراحل فضل محمد اللحجي مذهب اغنية " كم يقول لي الليل " فقد لحنها على مقام ( الرصد على درجة الفا ) ، " كم يقول لي الليل ياولهان توب / كم يقول للعين لاتبكي ذنوب / قال يكفيها شكى ، قال يكفيها بكى " . وفي الكوبليه ينتقل إلى مقام ( الحجاز على درجة الدو ) في هذه الأبيات : " إذا ما قام من نومه مع الطير غبش / تشوف الورد بالباكر على خده فتش / تتمنى تكون شعرة في الجفون / تحرس ذي العيون من شر القلوب " . ثم يعود مرة اخرى إلى المقام الأساسي ( الرصد على درجة الفا) ، واستخدم (الايقاع 4/ 4 ).
*****
  دلت الحالات والنماذج الشعرية والغنائية التي تحدثنا عنها في هدا البحث عن الشعراء الذين تناولنا بعض اعمالهم الشعرية - الغنائية وعيا نظريا وفكريا بالجمال ، ولدى عدد آخر ممن لم نأت على ذكرهم ، ولما كان الشعر وسيلة الشاعر للتعبير عن ادراكه باهمية الجمال ، فقد انشغل بالقصيدة ، او الأغنية ومنحها اقصى إهتمامه ، ويظهر ذلك جليا في إشتغال البعض على اللغة ، وعلى اللهجة من ناحية . ومن ناحية أخرى من خلال إشتغال البعض الاخر على الكلمة - المفردة ومشتقاتها ، والمستعمل منها ، والمهمل ، او الإشتغال عليهما معا ، والإهتمام بالصورة وبالمكان والزمان وغيرها من المضامين التي لايمكن ان تنهض القصيدة - الاغنية بدونها .
 
( يتبع )