محمدعمربحاح / عصام خليدي 

   يعتبر المرحوم الشاعر لطفي جعفر امان ، خير مثال للإشتغال الشعري على اللهجة والمفردة معا ، من خلال حرصه على جمال الكلمة ، وعنايته بها ، لفظا ، ومعنى ، ومبنى ممايمكن تشبيهه بالصناعة الدقيقة ، المبنية على عذوبة النطق ، ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف .
 في اغنية "في جفونك " من الحان وغناء الفنان احمد قاسم ، نجد مثالا على هذا الإشتغال الفني على اللهجة والمفردة معا :   ( في جفونك مرود السحر استوى 
     يامكحل بالهوى ..
   شوف كل ماسويته في القلب إلتوى 
     وهوى ..وهوى 
   من عيونك ...من عيونك ) .
  فنحن نرى في هذا النص الشعري الغنائي على رغم ان كلماته تبدوعادية في القراءة الأولى ، لكن في القراءة الثانية سنجد الصورة الفريدة لديناميكية الحب وكيمائيته التي اعطت للنص رفعة وطاقة دياليكتيكية ، مايجعلها ( الأبيات ) بمصاف نص بصري ، فنحن لانقرا النص اونسمعه هنا فقط ، بل نرى ذلك التفاعل الكيمائي لذلك القلب العاشق وقد انتقلت إليه شحنة الحب ودبيبها من قلب الحبيب المكحل بالهوى ، ونحس خفقاته وتوتره ، واشتعال نار الغرام فيه .
  ان اغنية لطفي تتميز دائما بفنها الرفيع ، جماليتها ، ونسيجها اللغوي ، وصياغتها الشعرية الحساسة مع ماتحتويه من اناقة لفظية ، ومعان سامية ، تنسجم وتتناغم مع شاعرية وحساسية ورهافة ، واناقة وتناغم لطفي امان مع روحه وذاته ونصه الشعري . 
  ونلحظ في الأبيات التي جئنا على ذكرها ، كيف اورد المفردة العربية " مِرود " ، وفي اي سياق شعري استخدمه ، وكيف وظف هذه الكلمة ( المهملة ) التي نادرا ماتستخدم فجعلها ايقونة في مطلع الأغنية : " في جفونك مِرود السحر استوى " .
  ان هذا المطلع الساحر يدل على ان لطفي امان كان لديه وعي واضح بقضايا الجمال َ والأسس الدقيقة في إدراكه والإحساس به ، كماتمتع في نفس الوقت بذات القدر من الوعي بجمال اللغة العربية ، فحرص على تصوير المعاني في اغنيته بالألفاظ التي توحي بها ، وتدل عليها .
  فبعد ان حدد مكنون السحر في جفون الحبيب ، فإنه يفيد من المعنى الذي يكمن وراء ذلك المعنى الذي اراده ، فيخرجه من حيث المألوف والمعتاد إلى استشفاف معنى جديد من اللفظ السابق للإرتقاء به : " يامكحل بالهوى " الذي يثير الدهشة في نصه الجمالي ، فلو قال مكحل بما تكتحل به النساء اي ( الكحل ) لما اصبحت معشوقته ذلك النموذج للجمال الساحر ، اولسحر الجمال ، ولما استدعى منه ذلك ان يتغنى بها طالما هي كسائر النساء في جمالها ، وفي زينتها ، مالم يكن الشاعر نفسه هو الذي يسمو بهافي شعره إلى مصاف جمال لم تبلغه النساء من قبل ! 
*****
  وعندما لحن الموسيقار احمد قاسم الاغنية لحنها على مقام ( السورناك ) ، ثم ينتقل في الكوبليه إلى مقام آخر في هذه الأبيات : " باهب لك كل ماتشتي واكثر / ياحلا في كاس كوثر / بس قل لي ياقمر / ملفوف بعنبر / يامشدر ايش اهب لك ؟ باهب لك " ، مستخدما مقام ( الحجاز على درجة الصول ) ، ثم يعود إلى المقام الأساس ( السورناك ) كما استخدم ايقاع ( الرومبا ) الذي يكتب ( 4 /4 ) .
*****
    ينتقل الشاعر إلى صورة اخرى بطريقة فنية ناجحة ، وبانسياب في المقاطع المشار اليها ، فينتقل من وصف فتنة عيون الحبيب وسحرها ، والهوى الذي تكتحل به ، والذي اصابته سهامه في صميم قلبه واستقرت فيه ، إلى لحظة يظهر فيها كرمه وسخاءه للمعشوق ، وإعطائه كل مايريد ، مع مزيد من التغني بجماله ومفاتنه ، فهو (حلا في كاس كوثر)  وهو (قمر ملفوف) قوامه البديع( بعنبر) ، والمشدر الذي لايمكن ان يحجب فتنته ودلاله لايخلو من غنج ممايزيد من شغف محبه ، واستعداده لمزيد من البذل .     
                      
  * اما الشاعر الرقيق مصطفى خضر ، فإنه يظهر مقدرته ومهارته الشعرية في الإشتغال على اللهجة المحلية ، وهي لهجة متداولة نستخدمها في كل لحظة ، في الببت والشارع ، والعمل والمدرسة ، والسوق ، وفي شتى الموضوعات التي نحتاج إليها في إستخدامنا اللغوي اليومي . لكن لما كان الحب هو موضوعه ، بوصفه شاعرا غنائيا ، فإنه يجد في اللهجتين العدنية واللحجية ، معادله الطبيعي للتعبير عن خوالج فؤاده ، وعن إمكانياته الشعرية للتعبيرعن افكاره واحاسيسه ، وسوف يثبت لنا ولنفسه قبل اي احد آخر ان اللهجة تملك من الإمكانات ، والقدرات ، والمفردات ، مايجعلها قادرة على التعبير عن اجمل المشاعر الإنسانية ، وانه يستطيع ان يصور بها حكاياته العاطفية ، وحالته الوجدانية ، وان هذه اللهجة سواء كانت عدنية اولحجية قادرة على خلق تواشج روحي بينه وبين حبيبته ، وبينه وبين المتلقي - المستمع .
  ويظهر لنا مصطفى خضر . ان ماهو مألوف في اللهجة ، وفي المتداول اليومي ، يمكن ان يكون شعرا ، وشعرا غنائيا بالذات ، له جماليته ، وسحره ، كأننا نسمعها. - اللهجة - لأول مرة - مثال على ذلك اغنيته ( وراسك ) التي لحنها وغناها الفنان القدير الراحل محمد عبده زيدي .
  فنحن نسمع الناس في عدن ، الصغار والكبار يحلفون بهذه الكلمة في اليوم الواحد عشرات المرات ، للتدليل على صدقهم ، او صدق افعالهم قائلين : ( وراسك ) خاصة اذا احسوا بان الطرف الذي يخاطبونه يشك في صدقهم . ولاخطر لأحدمنا ،اوحتى من الشعراء قبل مصطفى خضر ان هذه الكلمة العادية، المستعملة في المتداول اليومي يمكن ان تصلح مطلعا لأغنية جميلة .
  ومن هنا نلاحظ ان ميزة الشاعر ، انه يستطيع ان يستخرج السر الكامن في روح اللغة - اللهجة - الكلمة ، رغم ان الآخرين يعيشون معها طوال الوقت ، ويستخدمونها في كل لحظة في متداولهم اليومي ، لكنها لاتعني لهم اكثر من مدلولها الظاهر حين الإستخدام ، اما الشاعر فانه يقدر ان يجعل من الكلمة والمفردة العادية التي لاتثير إهتمام الآخرين ، شيئا اخاذا يثير الدهشة في نص شعري غنائي يعجب الناس كأنهم يسمعون بها لأول مرة . وسوف تكتسب هذه المفردة العادية معنى جديدا من راهن قراءتها في صورتها الشعرية الجديدة التي منحها إياها الشاعر مصطفى خضر وهو يقول : 
  ( وراسك ، انت اول حب 
  انا اخلص له من قلبي 
  واشعربه بأنه حقيقة 
  مش اوهام تلعب بي 
  كفاية مالعب بي الوهم 
  وخلانا اعيش في عذاب 
  وبعد الأنة والاهات 
  عرفت اني احب سراب ) .
  وكأن مصطفى خضر يقول لنا في هذا النص ، وفي سواه من نصوصه الغنائية التي كتبها باللهجة العدنية ، ان كل شيء يمكن إعادة صياغته ليتوالد من جديد داخل واقع النص الشعري ، في متواليات لانهائية من الإعادات والاضافات ، لترتيبها ترتيبا جديدا ، بفيوضات ذهن اومخيلة ، وبلذة قراءة لنص محتمل جديد .
  ( لكن حبك عليً جديد 
   في اسمه في شكله 
   ذي كلمة حب قليلة عليه 
 ياريت في كلمة تصلح له 
  اقول له بكل حنان 
  واعيشها كل يوم مرات ) .
  ونعتقد ان الفنان الزيدي استطاع ،  وباقتدار شديد ان يجعلنا نعبش ونحس هذه المقدرة من خلال لحنه الرائع البديع بترداده كلمة " وراسك " التي تبدأ بها الاغنية ، مرات عديدة كمحور لمطلع الاغنية ، وللنص بمجمله ، وإعطائها و ( إعطائه ) حياة متجددة ، يتجلى في ظاهره ، وباطن المعاني الرؤية التي تتضمنها هذه الكلمة - القسم . فكان اللحن متناسبا في لغته التعبيرية الموسيقية الفنية ، ومعبرا عن بعدها الذي سما بها من نطاق المتداول اليومي العادي ، إلى مصاف الشعري الغنائي.
وهذا الترداد لمفردة ( وراسك ) في مطلع الأغنية ، وفر درجة عالية من التوازن الجمالي الذي تجعل المستمع في حالة حضور وجداني ، ونشوة فنية نادرة ، ممايضع الفنان الزيدي في مصاف الملحنين القلائل الذين يمنحون الكلمة والأغنية عموما ، قدرات تعبيرية ، وتصويرية ، واضافات موسيقية ، ايقاعية ونغمية ، ودلالات تعكس النفس اللحني والرؤى الجمالية لهذا الفنان العبقري الذي ضمن قلة من الملحنين ليس على مستوى اليمن وحدها ، بل على المستوى العربي ، الذين تبنوا عنصر التصوير في المضمون الجمالي للأثر الموسيقي ، فوق انه يجمع في الحانه بين عنصري التعبير والتصوير .
 وربما كان من المهم الإشارة ، ان مصطفى خضر كان في اختياره المفردة العادية ، واشتغاله على اللهجة في العديد من اغانيه ، ان لم يكن كلها يتبع خطى استاذه الشاعر الكبير لطفي جعفر امان ، صاحب الباع الطويل في هذا المجال ، إذ عرف عن المرحوم لطفي اهتمامه بالنص البياني الذي يخدم الموضوع اوالحدث ، والنص الجمالي الذي يخدم الإبداع ، والنص التقني الفني الدي يخدم النصين السابقين ، البياني والجمالي .
  ويمكن الإشارة إلى اغنيات كثيرة بهذا الصدد، غير تلك التي سبقت الإشارة إليها مثل" يا عيباه " و "مش عيب عليك " و " مش مصدق " والتي اختارها لطفي من المفردة العامية العادية ، واشتغل عليها شعريا ، وفنيا ، في العديد من اغانيه ، سواء من حيث اللهجة ، او من حيث المفردة .
  وقد حققت هذه الأغاني الشهرة والشعبية الواسعة ، وترددت ، وماتزال على كل شفة كأن الناس يسمعون هذه المفردات : ياعيباه ، مش عيب عليك ، مش مصدق وسواها لأول مرة مع يقينهم انها من المتداول اليومي في حياتهم العادية ، وجزء من منطوق لهجتهم التي تشكل جزء من هويتهم اليمنية - العربية .
  وهنا تتجلى قدرة الشاعر في تحويل المألوف إلى تعبير شعري جديد ، يثير إهتمام ودهشة الناس وإعجابهم ، رغم سماعهم لهذه المفردات في كل يوم عشرات المرات تقريبا ، واستخدامهم هم انفسهم لها طوال الوقت .
*****
وقد ابدع الفنان الراحل محمد عبده زيدي صاحب الدراما الموسيقية اليمنية في وضع لحن اغنية ( وراسك ) فلحن المقدمة الموسيقية على مقام ( النهوند ) ، واستخدم فيها الإيقاع ( المقسوم 4 / 4 ) ، ليبدأ الغناء على مقام (النهوند على درجة الدو ) ، ومما يجذر الإشارة إليه انه خلال الغناء بالمذهب يتغير وزن الإيقاع إلى وزن ( 4 / 4 ( الوحدة الكبرى ) . وفي الكوبليه ينتقل الزيدي إلى مقام آخر يسمى ( البيات على درجة الصول ) في هذه الأبيات : ( حياة روحي انا اقسمت بحاجة اغلى من روحي ( ثم ينتقل إلى مقام ( الحجاز على الصول ) في المقطع الذي تقول كلماته : ( وراسك انت آمالي والامي وافراحي ) ليعود إلى مقام البيات على الصول ) في هذه الأبيات : ( انا ماحلمش بشيء ثاني ذا حبك كل مااتمناه / ولافكرت ولامرة بانه حقيقة ) إلى هنا لايزال لحن المقطع على مقام ( البيات ) لكن الزيدي وبمهارة فائقة يفاجئنا بانتقاله الى جنس مقام ( صبا ) في : " مش اوهام ، ورأسك " .
  وفي الكوبليه الثالث والأخير ينتقل الزيدي الى جو ملىء بالتفاول والبهجة والفرح فيستخدم الإيقاع ( الشرحي العدني 6/8) ، فيتحول بامكانية ال موسيقي المحنك ، والمقتدر إلى مقام جديد هو مقام ( الهزام على درجة مي ) ، في المقطع الذي يقول : " يازهرة في ربيع عمري / يافجر جديد يصحيني / ياشمعة نورت ليلي / يااحلى لحن يشجيني ".
*****
   ( يتبع ....