محمدعمربحاح / عصام خليدي 

 وإذا ماعرضنا على شاعرآخر هو احمدالجابري المعروف عنه إشتغاله الشعري على اللهجات المحلية اليمنية - العديدة منها - من عدنية وصنعانية وبدوية ولحجية ولهجات المنطقة الوسطى من اليمن ، فانناسنجد هذا الشاعرالغنائي من اكثرشعراء الأغنية اليمنية إخلاصافي إشتغاله على اللهجة ، وعلى تنوعها، والإشتغال على التشكيل الفني، وعلى المضمون، وعلى الغنائية، وعلى الصورالشعرية .
وفي كل اغنية من اغنياتة ، وكل لهجة يكتب بها اغانيه ، يكشف لنا عن مقدرته ومهارته في الكتابة بكل تلك اللهجات ، ليس ذلك فحسب ، بل انه يبرزلناجوانبها الجمالية، وخصائصها اللغوية،والعقلية والفكرية ، وايضا ثراءها اللغوي، لننفتح على مضامينها، ورؤاها ومداليلها، فيجعلنا نتوغل بأحاسيس المتلقي إلى العلاقة الجدلية للبيئة التي أنتجتها، وبالتالي اشعاره الغنائية تلك بأي لهجة كتبت ، من البيئة البحرية لأغنية ( يامركب البندر ) إلى البئية البدوية لاغنية ( علم سيري ) ، إلى الصنعانية في اغنية ( ياغارة الله ) .
فالجابري في كل تلك الأغنيات وفي سواها الكثير ، لايستعير لهجة المنطقة التي يكتب بها شعره فقط ، بل ايضا يصور لنا من خلالها البئية التي انتجتها، ولاننسى ان البئية تعد عاملا مهما في توجيه المجموعات البشرية إلى مجالات السلوك ، وإلى مجالات التفوق ، كما تعد عاملا يوجه مشاعرهم وعواطفهم ، وانصرافهم إلى جمال الطبيعة واتساعها من حولهم ، بالإضافة إلى العناصرالأخرى المؤثرة في الشخصية كالثقافة والجغرافيا والسياسة والآخر .
ولئن يكتب شاعربالعديد من اللهجات بنفس الإجادة ، اوالجودة لدليل على قدرة فنية وإبداعية في التأليف ، وعلى مقدرة من يعرف ان البوادي والأرياف هي المنابع الصافية للغة ، و( اللهجة ) هي في هذه الحالة هي المرآة العاكسة لحياة سكانها في شتى استخداماتهم لها .
وكمثال على هذه المقدرة الإبداعية لدى شاعرنا الجابري نشير إلى عدة نماذج مختلفة من اشعاره الغنائية في لهجتها وفي بئيتها.
ففي اغنية " يامركب البندر ' يقول : 
  " يامركب البندر 
   سنتين وباستنى 
   فيبك حبيب الروح 
  الحلو والاسمر 
  يامركب البندر
  احلى من السكر 
  ياحلو من زيك 
  الورد يتمخطر 
  يسري على خدك " .
 فهذا النص لايمكن إرجاعه إلا إلى البئية البحرية ، فمفردات مثل ( البندر ) و( المركب ) لاتوحي إلابذلك ، ويمكن ان تنطبق على اية مدينة ساحلية ، لكن لهجة الأغنية تنطبق على عدن لاعلى اية مدينة بحرية أخرى ، ومن خلالها سيكتشف المتلقي ذلك ، فمفردات مثل : ( فيبك حبيب الروح / واحلى من السكر / الورد يتمخطر / يسري على خدك /ان كنت ماتذكر / ايش رجعك تاني الخ...) تشير كلها إلى المدينة ولهجة اهلها ، والشاعر يوجه خطابه إلى " مركب البندر " بدلامن التوجه إلى الحبيب الغائب الذي ينتظره حوالي السنتين ، وذلك على غرار اضرابه من الشعراء الغنائيين في اليمن الذين يتوجهون بخطابهم إلى وسيلة النقل التي تحمل الحبيب المنتظر كالجمل او " البابور " ، السيارة ، او التي ستحمل مرسوله اليه كالطير. وساعي البريد، والريح ، ليعبر من خلالها عن جملة العواطف المختزنة في قلبه تجاه ذلك الحبيب ، ويبوح له عن شوقه إليه ، وقد يعاتبه على هجره له ، وهنا فان " مركب البندر" في اغنية الجابري المشار إليها سيواظب على حضوره فهو الذي فيه ( حبيب الروح ) ، ( الحلو والأسمر ) الذي تجتمع فيه كل صفات الجمال ، فهو ( احلى من السكر ) الذي ليس له مثيل في جماله إلى درجة ان ( الورد يسري على خده )  .
وسنلاحظ ان هذه الصورة الأخيرة قد صادفنا مايشبهها، اوماهوقريب منهافي اغنية الشاعر الراحل صالح نصيب ( كم يقول لي الليل توب ) : ( وإذا ماقام من نومه مع الطير غبش / تشوف الورد بالباكر على خده فتش ) ، ونجده ايضا في موشح ( حسن المختم ) للشيخ جابر رزق 1842- 1905م ، الأقدم من النصين السابقين : ( نص جيدك ياحالي الروش في بريدك مايروي العطش . في خدودك ورد قد فتش ) ، لكن بالرغم من تشابه المعنى في الصور الثلات " الورد يسري على خدك " ، في نص الجابري ، و" تشوف الورد بالباكر على خدك فتش " في نص صالح نصيب ، وفي " خدودك ورد قد فتش " في نص الشيخ جابر رزق ، لكن توظيف كل واحد من الشعراء الثلاثة يحمل قيمة جمالية تدل على المنحى الإبداعي المحكوم بمنظومة جمالية متناسقة بصرف النظر عن الفارق الزمني بين هذه النصوص ، ويبدو لنا ان هذه المنظومة قد تشكلت في تكوين المجتمع اووجدانه، واضحت من العناصر الجمالية المتداولة شعبياوالتي تنتصب امام الشاعر فيستلهمها ويوظفها في تركيب شعري جديد يحمل قيمة جمالية جديدة .
ومالم يظهره النص الشعري للجابري في " مركب البندر " لناحية الاقتصاد الشديد في إظهار المفردات البحرية تكفل اللحن الرائع الذي صاغه الموسيقار احمد قاسم في الكشف عن مكنوناته واسراره ، ومايظهر منه ، ومايبطن تحت طيات النص ، وعلى عقل وذوق المتلقي - المستمع من خلال الإيقاع الموسيقي الذي لايمكن نسبته إلا إلى تموجات البحر المنسابة كالنسيم .
*****


 لحن الموسيقار احمد قاسم الأغنية على مقام ( كرد على درجة الدوكا ) في المذهب ، وفي الكوبليه ينتقل على نفس المقام ( جواب ) في الأبيات التي تقول : " احلى من السكر / ياحلو من زيك/ الورد يتمخطر / يسري على خدك " ، ومن حيث الإيقاع فقد استخدم إيقاع ( شرح ثقيل (8/6 ) ويجدر الإشارة هنا ان الأغنية لحنت على نغمات (السلم الخماسي ) بتوظيف موسيقي غنائي يمني .

.*****
ويمكن ان نقول الأمر نفسه عن نص مغاير في لهجته وبئيته، نقصد به اغنية " علم سيري " لنفس الشاعر ولكن لملحن آخر هو الفنان الكبير محمد مرشد ناجي - رحمه الله .
 في مطلع هذه الأغنية يقول الجابري : 
  " علم سيري ..علم سيري 
    الاَ بسم الله الرحمن 
   علم سيري ..علم سيري 
   الاَ لامودي ولاشيطان 
   الاَيامرحبا بش وباهلش. 
   وبالجمل ذي رحل بش ".
هذا الاستهلال الرائع يشير فورا إلى لهجة اهلنا في مرتفعات ابين الجبلية ، وإلى البئية البدوية التي انتجت هذه اللهجة ومفرداتها ، وإلى المناسبة السعيدة التي تتكيء عليها الأغنية ، وهي الزواج ورحلة إنتقال العروس من بيت اهلها إلى بيت زوجها اوعريسها ، ومن خلال النص سيطلعنا الشاعر ليس على اللهجة البدوية ومفرداتها الثرية وحدهما ، بل ايضا على جزء من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في تلك المنطقة ، وفي غيرها من مناطق اليمن المترامية الاطراف ، والشديدة التنوع ، حيث كانت العروس تنتقل مصحوبة بركب من اهلها ، على هودج يحمله جمل، وسيلة المواصلات الوحيدة في ذلك الزمن غير البعيد قبل ان يتعرف اهلها السيارات كماهوالحال اليوم .
وإذا كان الأدب بشكل عام ابن بئيته بامتياز ، فان نص الجابري المشار إليه سيعبر عن هذه البئية البدوية التي اختار لهجة اهلها، وسيخبرنا عن هذه البئية ويصورها لنا بدءاَُ من الاستهلال الترحيبي من العريس المبتهج بقدوم عروسه التي قطعت مسافة طويلة، وتحملت ومن يرافقها من اهلها عناء الرحلة ، ووعكاء السفر، فيعبر عن هذا الإبتهاج في لحظة الوصول بالترحيب بها وباهلها، بل وانه يونسن سعادته لكي يشمل بترحيبه ( الجمل ) ذلك الحيوان الصبور الذي لولاه لربما استغرقت الرحلة اياما وليالي طوالا . والذي يعرف تلك المناطق الجبلية ،وبعدها عن بعضها البعض ، ووعورة الطرق، والمخاطر التي تحف بها بسبب الثارات بين القبائل المتخاصمة والمتحاربة ، اوبسبب تقطع الطرق وعدم توفرالامان الكافي، سيدرك مقدارمايشعربه العريس واهله من فرح لوصول العروس وموكبها المرافق الذي من الممكن ومن الطبيعي في ظروف كالتي اشرنا إليها ان يكونوا قد احتاطوا للأمر، واستعدوا لكل طارىء ، من خلال توفير حراسة مسلحة كافية من اهل العريسين والقبيلة لمرافقة العروس حتى وصولها سالمة إلى بيت عريسها.
وسيعزز الشاعر علاقتنا بالمكان، وبالحدث في بقية اغنيته، فيصورلنا على لسان العريس الإستعدادات التي اتخذها لهذه المناسبة السعيدة، بحيث يستوعب كل الناس فرحه ليزداد جمال المكان ويليق بعروسه، حيث فرش الوادي بالريحان، لكي يليق بقدومها، وتجشم واهله عناء السفر والسري في الليل على صوت الفرح والدان، فكل شيء يشاركه فرحه وابتهاجه حتى الوديان :
"   فرشنا اموادي بالريحان / ومن اجلش سرينا ليل / على صوت الفرح والدان/ الاحيا ملاالوديان / الايامرحبابش وباهلش/ وبالجمل ذي رحل بش " . وبفرح المشتاق للقاء عروسه يدعو اهل البيت ان يشاركوه فرحه وسعادته، وان يرشوا البيت ويطلقوا فيه البخور، وإلي الرقص والغناء، هنافقط يكتمل المعنى، ويتصاعد سحرالبيان، فتتبدى الحكاية منظورة وكأنهامرسومة عيانية، تحلو وتزداد، تشوقالما خفي فيها مع انها تبدوظاهرة .
*****
امااللحن الذي صاغه فناننا الكبير محمد مرشد ناجي، فمن الواضح انه استلهمه من روح الاغاني الشعبية في تلك المنطقة، متكئافي لحنه وادائه على الموروث الغنائي الشعبي، فجاء اللحن متسقا مع سياق البئية الشعرية للأغنية، ومع البئية التي اوجدتها فحالفه التوفيق .
وقد انتصبت امام فناننا الكبير مسألة ان بنية شعرية كهذه لايمكن ان يناسبها إلاتوظيف الشكل الإيقاعي المتداول شعبيا ، فاستخدم إيقاع الشرح البدوي (4/4) ، بينما لحن المذهب على ( بيات على درجة الصول )، وفي الكوبليه الذي يقول : ( فرشنا اموادي بالريحان / ومن اجلش سريناليل/ على صوت الفرح والدان / الاحيا ملا الوديان ) ينتقل من مقام (البيات على درجة الصول )، إلى نقلة مقام (الرصد)، فبدا اللحن مناسبا ومنطقيا .
ولاشك ان استخدامه لايقاع الشرح البدوي 4/4 ومقامي البيات على درجة الصول ، والرصد، يعكس وعيا من فناننا الكبير المرشد بالموروث اليمني الغنائي وعمق تاثيره في التكوين الروحي للشعب ، واختياره المبدع للحن اغنية " علم سيري " يدل على فهمه الواعي للمناخ الاجتماعي، والمنابع الفنية التي ارتوت منها اغنية الجابري .
*****
وللمرشد تجربة طويلة وثرية في التلحين والتعامل مع النصوص الغنائية لشاعرنا الكبير احمد الجابري، ومع اغاني التراث بصفة عامة ممايحتاج إلى اكثرمن بحث واكثر من دراسة، وهوإبداع ثري وعظيم، وجزء لايتجزا من ذاكرتنا الغنائية، وتجربة إبداعية عمرها اكثر من نصف قرن لها خصوصيتها، كماان فناننا الكبير محمد مرشد ناجي ينتمي في فنه وإبداعه إلى مرحلة الريادة الجديدة للأغنية اليمنية التي كان لها السبق في هذا الميدان، ومن المساهمين الرئيسين في تطورها النوعي، والخروج بها من نطاق المحلية الضيقة، إلى تقنيات العصر دون التخلي عن خصوصيتها والإنتماء إلى بئيتها اليمنية .