ربما كان نصيب المبدعون في اليمن أقل حظاً وأكثر معاناة من أترابهم في البلاد العربية الأخرى ، فقضية الإبداع وما يتخللها من إشكاليات : سياسية / إقتصادية / ثـقافـية /إجتماعية.. تُـعــد من القضايا المهمة الشائكة المعقدة في واقـعـنا ومجتمعنا اليمني المتخلف كونها تخضع لضغوطات وعوامل وملابسات متعددة متباينة تبرز بصورة واضحة جلية في طبيعة الـعلاقة بين المـثقـفـين والسلـطة...
تاريخنا القديم والمعاصر يفصح عبر الأزمنة بالأدلة القاطعة والبراهين أن الأرض اليمنية أنجبت الكثير من (العظماء) في كافة حقول الثقافة والإبداع ممن ساهموا بما قدموه من عطاءات إبداعية راقية (إستثنائية) أستندت بمشروعها التنويري الفكري النهضوي على قاعدة (حرية الرأي) والإنفتاح على كل الثقافات والأديان والمشارب السماوية والدنيوية في مختلف بقاع الأرض هذا النوع من الإشتغال (الثقافي الإبداعي) تحقق في (مدينة عدن) ووجد مناخ ملائم وتربة خصبة في بداية القرن الماضي الزاخر بالإنجازات والمشاريع الريادية التأسيسية على مجمل المستويات والأصعــدة وأستطاعـت مدينــة عـــدن بمشاريعها النخبوية..السياسية..الفكرية العلمية والإنسانية أن تحقق دوراً ريادياً ومكانة مرموقة بل أصبحت (مـنـاراً) ينفث إشعاعاً ووهجاً يرمي بظلاله الثقافية الإبداعية في كل مناطق وبلدان الجزيرة العربية والخليج والوطن العربي بأسره إلى يومنا هذا .
فكانت مدينة عدن (المكان..الزمان..الصوت..الضوء) بفضل مشاريع ورؤى وتطلعات وأفكار أبنائها (العظماء).
وفي الواقع أن كلمة (عظماء) يندرج في طياتها من كان لهم دوراً رائداً في تأسيس البنيان  الثقافي من خلال عطاءاتهم الإبداعية والفكرية، ذلك العطاء الرائع الذي شكل تأسيساً للفعل الحداثي النهضوي  الثقافي المعرفي الإبداعي والذي كان مرده طبيعة العلاقة التي حكمت سياق ذلك التطور مع السلطة ، إذ كانت أكثر (إستقـلالـية) وأقل تورطاً في التهافت لخدمة أهواء وأغراض (السلطات الإستعمارية المحتلة) في تلك الحقبة الزمنية..

ومن الواضح أن صروف ومراحل التطور السياسي السلطوي العربي قادت تحت ذرائع ومسميات كثيرة إلى ما يشبه الإستبداد وبالتالي الهيمنة الرسمية على المؤسسات الثقافية والإبداعية بصورة فجة أنتجت الكثير من الإشكالات التي أثرت سلباً على إيقاع التطور الطبيعي لحركة الثقافة والإبداع عموماً...
ومع كل الآثار الناتجة سـلـباً عن هذه العلاقات تبقى قضية المفكرين والمبدعين والفنانين والشعراء والمثقفين وتحويلهم إلى  (أبواق وأزلام وأدوات تخضع لأهواء وولاءات سياسية عسكرية قبـلـية) متخلفة متجبرة متغطرسة أشـد وأعـنف أشكال الممارسات السلطوية ضراوة ووحشية  وقساوة  يتجرعها المبدعون نفسياً ومعنوياً وإنسانياً بصورة قاتلة مميتة..

حيث تأتي الصحوة المتأخرة وبعد أن يتم إستخدام كل الطاقات الإبداعية الفكرية حسب (ظرف الزمان والمكان لخدمة السلطة ) بعـملية أشــبه مـا يـمكن أن نـطـلق عــليـها عـملـية (الإغتصاب الفكري الإبداعي)  والتي يحدث على إثــرها (هــوة وإختلال كبيرين) في حـيـاة  وكيان المفكر المبدع، وذلك أمر طبيعي أسـبابـه  ومعطياته النتاج المبرمج نظير تلك العلاقة غير السوية لفكر وكيان يجب أن ينمو بمناخ مطلق من الحرية..

(فـشخصية المبدع عوالم مستـقـلة لكـائن خلاق بعـقـل كوني)،  يـنــبغي أن لا توجه  لمصلحة أي إتجاه سياسي أو حـزبي على الإطلاق ،بإعتباره يمتلك رؤية مستقبلية إستشرافية وفـكر وقـناعـات مسـتقـلـة..

إننا  اليوم في زمن العولمة علينا إعادة ترميم وبناء الإنسان من الداخل في (إتباع نظرية أنسنة الإنسان) ،أما ما يحدث على صعيد الواقع الراهن وبسبب كل تلك الصراعات السياسية الدموية والحروب والدمار والهزات الفكرية والنفسية والأخلاقية التي تؤدي الى  (حالة الإغتراب الفكري والوجداني) في حياة المفكر المثقف المبدع فيفقد هويته وإنتمائه إلى ذاته أولاً بسبب طوفان الولاءات  الحزبية والقبلية المتغطرسة الضيقة وتكون (الـنهـايــة) التي لا شك أنها إفراز طبيعي مرده تراكمات العلاقات السلطوية المحبطة الجـهـويـة والقـمعـية، ذلك أن (القاعــدة لِـتخّـلُـقْ أي نتاج إبداعي بعافية تامة هي مناخ رحب لممارسة الحرية) التربة الخصبة التي من خلالها ينمو الإبداع ويستقيم عــوده، وبالـطبع لا يعي ذلك المفكر (المـبـدع) عواقب مسعاه لمثل تلك العلاقات غير السوية مع السلطة وهيمنتها عليه نظراً  لشدة وطأة ظروف إقتصادية / وظـيفـية / مـاديـة..وغيرها ربـما نــالـت من تـوازنه فلا يدرك أضرار تلك الهيمنة وعواقبها ومفاسدها  المدمرة إلا بعد أن يـتـوه بين دهاليزها وتـفسده بما ليس بعلمه وبالـتالـي تـفـقـده أغـلى وأعـظـم ما يملكه من (هـبـة) الخالق سبحانه وتعالى.