هناك داع لمزيد من الكتابة عن المكلا ، لقد أحببت هذه المدينة وأشعر بنوع من التقصير نحوها ، فهذه من المرات النادرة التي اكتب عنها ، ليس عن تجاهل بل ان بعض المدن تظل في الذاكرة، تعيش معك في أي مكان تكون فيه..ويؤجج الشوق للوطن البعيد هذا الإحساس ...
 لم تمنحني "المكلا " رغم حبي الجم لها منذ أول لقاء أدنى فرصة لسبر اغوارها بسرعة ، محتجبة خلف ذكائها الوقاد، وحيائها الذي يشبه حياء الأنثى ، وايضا خلف تواضعها الجم ، ووميض عينيها الذكيتين.. في اللحظة التي ابتعدت عنها ، واوغلت في البعد صارت كالكتاب المفتوح ، وقادتني إلى اعماقها ومجاهلها فلم يصعب علي حينئذ فهمها ، ومع الوقت اكتشفت ان تمنعها ذاك الأول لم يكن دلالا بقدر ماكان إختبارا ....
  مازال البحر يصل بيني وبين "المكلا "، والبحر أقوى موصل للتيارات  ...!
                              2
 في إحدى لحظات الوصل النادرة تلك اخذتني إلى (خلف) وسرعان ماارسل البحر رذاذه العذب وهواءه المنعش، والقمر ضوءه الأزرق الفضي ..كنت في لحظة محضارية كتلك التي صورها في أغنيته الشهيرة ( سر حبي ) ومن غير المحضار يمكن أن يعبر عن تلك اللحظة على ذلك النحو البسيط والمدهش . "واجهتنا خلف بعد العصر والحاسد خلف....والهواء يجري حوالينا يلف الموج لف..."
 وكان هناك شاب على الصخور يبدو انه يملك سر البحر ، وسر الصيد ، وسر الحب ..بيده سنارة وفي كل مرة يرمي فيها السنارة يصطاد سمكة حتى امتلأت سلته بالسمك ،والآخرون الذين يصطادون مثله يرمقونه باستغراب ..نفس البحر ..نفس المكان .. نفس السنانير ،..ومع ذلك يبخل عليهم  بسمكة واحدة.! هل هو الحظ ..ام يوم سعده؟ هل يعرف الصبي بينما يجهلون كل شيء عن اسرار صيد السمك،فيفوز ويفشلون ؟!!
 في نفسي اخذت اردد : أرزاق..أرزاق..! سبحان الرازق  سبحانه ...
 بينما كان المحضار يقول سر حبي فيك غامض ..سر حبي مانكشف ...!
                                3
  برا سافرت على ظهرشاحنة بضائع مع الشاب الذي تعرفت عليه توا إلى بلدته في حيد الجزيل بوادي دوعن  غرب حضرموت،،دعاني ولم ارفض ، دفعني الفضول قبول دعوته ، توا كنت عائدا من زيارة حضرموت الداخل ،ومدنهاالرئيسة سيئون وتريم وشبام حيث رافقت وفدا سياحيا ، لكني لم ازر دوعن ولامرة..كان هذا من أسباب قبول دعوته بدون تردد ...
 كل سفر يقدم لك فائدة جديدة ومعرفةكنت تجهلها ، 
 كرم الله وجه من قال "سافروا ففي السفر سبع فوائد.."
  حيد الجزيل ،التي وصلنا إليها بعد رحلة شاقة كانت واقعة على ارتفاع ( 150 ) مترا عن سطح الوادي
تسلقناها مشيا على الأقدام ، وحتى اليوم لا أعرف كيف فعلت ذلك ، ليس مرة واحدة بل عدة مرات ..
 حيد الجزيل .. لا تصدق ، بالنسبة لي كانت هدية من السماء..قرية من قرى الأساطير .. وكأنها تسلك طريقها إلى الفضاء...
وصفتها جريدة " ديلي ميل ' البريطانية بأنها تبدو وكأنها من كوكب آخر .. وتشبه إلى حد كبير مملكة الخواتم التي ظهرت في سلسلة الأفلام الشهيرة التي تحمل نفس الإسم .. تطفو على صخرة ضخمة  مع جانبين عموديين ، وسط مناظر طبيعية مدهشة في وادي دوعن، أحد أودية غرب حضرموت  حيث يقع بين الجبال والهضاب العالية ... 
                                      4
  بعد عدة أيام، مللت خلالها اكل اللخم في حيد الجزيل   قال لي مضيفي سأغذيك اليوم سمكا طازجا ...
   لم أصدق، فنحن بعيدون عن البحر .. واقرب مدينة على البحر وهي المكلا تبعد عن الحيد نحو 175 كيلو مترا ..
                            
  ونحن نسبح في بحيرة صغيرة في اسفل الوادي تكونت من بقايا الأمطار والسيول قال مضيفي:  
  - ستأكل سمكا طازجا كما وعدتك ...
  نظرت إليه باستغراب : 
  - كيف ؟!
 أجاب: 
 - من البحيرة ..
 - وهل فيها سمك ؟!!
 قال : نعم ..
 قلت ببلاهة: حتى لو كان فيها ، كيف سنصطاده ولم نحضر سنارة اوشبكة ..  
   من منديل صغير كان يحمله اخرج حبات بن مغلفة
بعجين دقيق والقاها في البحيرة.. بعد قليل طفت على السطح عدة سمكات ، دهشت لحجمها ووجودها في هذا المكان .. أخذ يلتقطها بيده دون ان تبدي ادنى مقاومة كأنها في حال خذر لذيذ ..وأشعل نارا من حطب جمعناه من الوادي ..
 .. سألت نفسي ونحن نلتهم بلذة السمكات التي شويناها على الفحم : هل كان ذلك سر صديقي الذي لم يبح به لأصدقائه وهو يصطاد السمك معهم .في بحر خلف في المكلا ؟!
لم اسأله حتى لا احرجه ، واجابني نيابة عنه السمك الذي اصطدناه بأغرب طريقة رأيتها في حياتي ..! 
   
    ( ولمدن البحر بقية)