احيانا تقودنا الصدفة إلى أماكن لانعطيها أهمية، او نمرعليها عابرين ،.لاندرك اهميتهاإلابعد زمن قد يمتد .. لكنها تظل في ذاكرتنا ، تلح علينا بين وقت و آخر ،نستعيدها ، نشتاق لهاوكأنها تقول لنا : "أناهنا ! " .
  كنت محظوظا إذ سكنت في القرية كلما جئت الشحر  ، في بيت من اللبن لايختلف عن بيوت الطين الأخرى غير بعيد من البحر ..
  كيف انسى القرية....
كيف انسى اني صليت في الجامع الكبير ..أيامها لم أكن اعرف ان التجمع السكاني في بداية الإسلام تركز هنا في حي القرية مع اول مسجد بني في موقع المسجد الكبير .... 
ولاكنت اعرف ان القرية" اقدم أحياء الشحر ، حيث كان الميناء القديم ، وأقدم مستوطنةبشرية في الشحر منذ 980 للميلاد ..كمادلت الحفريات الأثرية التي قامت بها بعثةفرنسيةإلى وجود إستيطان بشري مستمر حتى يومنا هذا في تل القرية ... 
هناك يقع بيت حسن الطين ، صديق اخي محفوظ ، كان سائق سيارةاجرة"لاندروفر"، بين الشحر والديس .. وبين الشحر والمكلا ..عندما يكون في الديس ينزل ضيفا في بيتنا في القويرة ، وننزل ضيفين اناواخي في بيتهم في القريةعندما نزور الشحر . ثم صرت اذهب وحدي بعد ان سافر اخي إلى الكويت ، وهناك تعرفت على والده العم سالم الطين وشقيقه محفوظ ..حيث وجدت  اصالة الشحريين، بساطتهم، كرمهم ،وسماحتهم ...
                                (2)
  اتطلع إلى صديقي من الشحر تارة وإلى السماء تارة لعلني اجد طريقا إلى أحياء وشوارع مدينته ..خريطة إلى إشاراتها القديمة ، لايحفل صديقي بالخرائط كثيرا فهو يحفظ الطرق إلى أحياء وشوارع ومطاريق مدينته عن ظهر قلب .. .
  تكونت ذكرياتي عن الشحر هنا ، من هذا الحي ،"نخيط" وصديقي الطرقات دون هدف محدد،،
 وفي يوم آخر نتجه شرق القرية نحو حي المجرف  على حافة البحر ..وإلى ساحة عقل باعوين في الشمال الشرقي للقرية حتى عقل باغريب في الغرب منها، ..ونكتشف شوارع لانعرف اسماءها أو لم تكن لها اسماء  لكن ما يجمع بينها ان طرقاتها ترابية...نظيفة ..
 في تلك الطرقات كل تاريخ الشحر ، قصورها ، اسوارها ، بواباتها ، اسواقها القديمة، حوطاتها ، مزاراتها ، مقاهيها العتيقة ، مساجدها ، مدارسها ، مركز المدينة الذي يتصل بكل الأسواق والأحياء.. ثمة حياة وتاريخا اينما سرت ..ومالم تستطع ان تبح به في ذلك الوقت كشفت عنه من وسط ركام الزمن البعثة الأثرية الفرنسية التي عملت هنا في التسعينيات والتي قدمت وصفا لطريقة إتساع الشحر في العهد الإسلامي إنطلاقا من ثلاث مساحات او ( حوطات )  كما تسمى في حضرموت ... تضفي إقامة رجل صالح في مكان ما نوعاً من الإهتمام لهذا المكان ويتحول إلى مكان  يسمى بــ (الحوطة) وعند وفاة الرجل الصالح يتم إنشاء قبة يدفن تحتها أو مسجد يتم دفنه بالقرب منه ثم يتحول هذا المكان الى نقطة توسع عمراني. ..
وهكذا امتدت المدينة انطلاقاً من هذه الحوطات. وقد اتسع الاستيطان في عهد الدولة العباسية من الجانب الشرقي لوادي سمعون إلى الحدود الشرقية للقرية بطول نصف كيلو متر من الشرق إلى الغرب وبعرض أربعمائة متر شمالا وعلى بعد 60متراً من الشاطئ. وفي القرن التاسع كانت المدينة القديمة تمتد على مساحة تقدر بعشرة هكتارات.... 
                             (3)
    تمتد وتمتد وكأنها تعانق الطين الذي خلقت منه اول الخليقة ،لم تعرف الحجر إلا في القرن الحادي عشر الميلادي حين تم بناء اول منازل حجرية على الشاطئ في حي القرية. وفي عهد الدولة الرسولية (1229م–1454م)  كانت المدينة واقعة  تحت نفوذ السلطان وقد قدمت مخطوطة السلطان الرابع لهذه السلالة المؤيد داوود بن المظفريوسف والذي توفي عام 1321م مخططا ل «مدينة الشحر وحدودها». يعرض المخطط سوراً دائرياً عليه بوابات الشحر الرئيسة. ويظهر على الخريطة أيضاً جبال حضرموت والمراكز الرئيسية في المنطقة مثل تريم وشبام والهجرين وقبر النبي هود. .
                             (4)
                               
   ومن القرية كنت اذهب إلى البحر الذي لم يكن بعيدا مع أصدقاء تعرفت عليهم من ابناء الشحر ... وميزة مدن البحر انها تقدم لك اصدقاء رائعين بدون تكلف ولا تحتاج إلى وقت كثير لذلك ..كانت أحلامنا تتفتح ونرى
الأبدية في الماء ... 
انيس احمد طايع  ،، الشاب الأسمر الذي لاتفارقه الإبتسامة .. يعمل ويدرس في نفس الوقت ، سعى وراء حلمه ووصل به طموحه لأن يصبح أستاذا في جامعةعدن بعد نيل الدكتوراة ، ايامها كان في الثانوية بينما كنت تلميذا في المعهد الديني ( وسطى).
  ..محفوظ بن بريك الذي يمرن صوته العذب في الشاطيء بينه وبين نفسه ومع اصدقائه،وحمله طموحه لأن يغدو من فناني الشحر وحضرموت المرموقين.. وكان سعيد عبد النعيم حينها شيخ الطرب في الشحر والمشرق يأتي إلى الديس الشرقية لإحياء حفلات الأعراس وكنت اذهب إليها حيث استمع إلى غنائه العذب وطربه الحضرمي الأصيل وصوته الصافي ، ومنه سمعنا اغاني المحضار قبل أي أحد آخر من الفنانين الذين غنوها واشتهروا بها فيما بعد..كنانسمعها بلحنها الأصلي  بدون رتوش ولا إضافات.
.. علي لرضي ، وكان اخوه صالح يملك صيدلية لرضي في الشحر واصبحا من اصدقائي،ومحمدباشراحيل الذي كنا نلتقي جميعا في بيته ، وقد اصبح بعد سنوات مدير مدرسة .
سعدت كثيرا بالتعرف إلى هؤلاء الأصدقاء الرائعين من ابناء الشحر  الطيبين ، وكنا جميعا في مقتبل العمر مع تفاوت بسيط في الأعمار ، ونحن نتمشى في السيف كانت تتملكنا رغبة في الغناء فننشد مقاطع من بعض الأغاني الصادرة حديثا ، وكان محفوظ بن بريك اعذبنا صوتا ..والبحر يعطينا شعورا بالسعادة والأمل والإمتلاء والحرية والإرتياح واحساسا شاعريا حتى لو لم نكن شعراء ..وأيامها كان لاعب كرة قدم في نادي شباب الجنوب ..ولم يكن في خاطرنا انه سيكون فنانا معروفا في يوم من الأيام ...
                                (5)
 
  في نفس الفترة او بعدها بقليل ، تعرفت إلى محمد حسين الجحوشي .. كان نجما من نجوم كرة القدم ، ولاعبا مشهورا في نادي شباب الجنوب الذي يعد من اقوى اندية الكرة في حضرموت ، إلى جانب منافسه كوكب الشحر ، وكانت الشحر تنقسم كرويا بين الناديين الكبيرين عندما يتواجهان في مباراة من مباريات كرة القدم ، مثلما هو الحال في مصر عندما يلعب الأهلي والزمالك . كما كانت له تجارب في التمثيل حيث مثل عدة مسرحيات .ثم توثقت علاقتي بالجحوشي بعد ان انتقل إلى عدن وكشف عن موهبته كشاعر حداثي متمكن ونشرت له بعض شعره في صحيفة "14 اكتوبر" ، واصدر ديوانه الأول  ( مالم تقله النجوم )  1983 وانتظر عشرين سنة ليصدر ديوانه الثاني والأخير ( وجه آخر لغرناطة ) في 2003،وكتب الشعر الغنائي وحقق فيه النجاح ، ولحن له احمد بن غوذل ( غالي ..غالي )  التي اشتهرت بصوت الفنان انور مبارك ، وسجلها الفنانون عبدالرب إدريس ، وعلي الصقير لتلفزيون الكويت . ومن أغانيه التي حصدت الشهرة والنجاح ( بعد هجرك ..بعد غدرك ..) وكانت نمطا جديدا من الشعر الغنائي ..ومعظم أغانيه لحنها له عبدالله بأفضل.  وبرغم ماحققه محمد الجحوشي من شهرة في عالمي الرياضة والأدب لكنه ظل ذلك الإنسان كما عرفته في منتصف ستينيات القرن العشرين الماضي ..الهادىء الخلوق ، المتواضع ، الذي لاتفارق الإبتسامة وجهه ويلفه الحياء ويقطر منه الخجل ..
                                  (6)
 لا أذكر الشحر إلا وذكرت  زملاء دراستي من الشحر في المعهد بغيل باوزير : علي سعيد بارزيق ، فرج باحويرث، عبدالرحمن بن شرف، سعيد عوض العمودي، صالح باطويح ،محمد رجب العمودي، وسعيد بامساعد من ريدة المعارة والعليب رحم الله من مات منهم وبارك من لازال على قيد الحياة .                            
                               *****
  تعود علاقتي بالشحر إلى زمن الطفولة ، جئتها اول مرة مع ابي قادمين من المكلا في طريقنا إلى الديس الشرقية ..لا أذكر الكثير من زيارتي تلك غير انا نزلنا ضيوفا في بيت حسين الصومالي الذي كان متزوجا من   بيت جارنا الناخوذة العم سالم بسيس في الديس ، وكان يملك سيارة نقل بضائع كبيرة كانت إحدى السيارات القليلةفي الشحر في ذلك الوقت من نهاية الخمسينيات من القرن العشرين الماضي .

                       (ولمدن البحر بقية )
.