كان الجو هادئا ،والبحر زاخرا بالمراكب الراحلة ككل  الأزمان تقريبا.. ثمة بحارة يشدون الحبال ، ويرفعون المراسي ، و "صواري التعب" ، ورجال يرمقون البر الذي ربما لن يروه إلا بعد سنين طوال ، يشدهم الحنين إلى حضرموتهم حتى قبل ان يبحروا ..جموعا ودعت ، جموعا استقبلت ، شبابا ودعتهم ، كهولا استقبلتهم،  كهولا ودعتهم ، اطفالااستقبلتهم..وهذا الطائرالمهاجر لايكف عن الرحيل ، ولا عن العودة ... والرحيل !
  على ساحل الشحر استعدت منظرهم ... موجات الهجرةالحضرمية الأولى فرادى وجماعات ، موجة إثر موجة ، أجيالا بعد أجيال.. من هنا أبحرت سواعيهم الخشبية الشراعية قبل إختراع السفن البخارية ، فبلغوا بها الشرق الإفريقي ، والشرق الآسيوي ، والهند والسند ، ومصر وغيرها من الأمصار،  وكانت الشحر والحامي وخلفة والقرن وشرمة ورأس باغشوة بوابتهم إلى ومع العالم .
                                 (2)
   - مما كنت تهرب ياجدي ؟! 
أمن جوع وفقر وقحط ، وماآلت إليه أحوال البلاد والعباد ،ام من أجل نفسك ،او خوفا على الأهل .. الأب والام والزوجة والأولاد.. ؟
  ام بحثا عن فردوس مفقود في قارات الدنيا المتباعدة بعد ان فقدت فردوسك الحضرمي .. فشرقت وغربت ، 
 ويمنت و"شملت" ..                      
      وهل حقا وجدت ذلك الفردوس ، وطاب لك المقام في الممالك والسلطنات والمستعمرات او المستوطنات التي اقمتها هنا وهناك في الشرق الإفريقي والشرق الآسيوي ، في الهند ، وفي زنجبار  وجزر القمر ....            أما كان عليك ترميم حياتك والعودة إلى حضرموتك ، ربما كان الفردوس الذي تبحث عنه هنا ..فالممالك التي اقمتها ضاعت كما ضاعت الأندلس ..في حياتنا لا نبني شيئا ونحافظ عليه ! 

                             (3)
  
 يوم غادروا حضرموتهم باتجاه قارات ومدن لايعرفونها ، لم يفكروا كثيراً في المخاطر ،ولاماذا سيواجهون ...
 هم ذهبوا في البداية طلبا للرزق . لم يكن يقول جديدا "دبليو إتش انجرامس" المستشار البريطاني السابق في حضرموت عندما قال : ( ان هجرة الحضارم إلى الخارج ليست ظاهرة جديدة ، فليس جديدا على الحضرمي ان يهاجر طلبا للرزق ) . لايفكر المرء في الهجرة إلا هروباً من ضيق لايحتمل ، حلاً لايملك الحضرمي غيره ، ومع الوقت والتكرار يتحول إلى نوع من العادة التي لايملك سواها ، ويورثها الآباء للأبناء .. لم يكن أمامهم شيء اشق من السفر ، وخوض غمار البحار والمحيطات . وكانت حضرموت خلال القرون الثلاث الأخيرة على الأقل اكثر البلدان الطاردة لأبنائها ...
                              (4)
من (كتاب الطواف حول البحر الاريتري  ) نتعلم ان للحضارم طموحاً قديماً للهجرة خارج حدودهم...يشير كاتب الطواف إلى أن المنطقة كانت تخضع لهم كحق قديم يتمثل في خضوع المنطقة للدولة ذات الصدارة في الجزيرةالعربية ،،،
والإشارة إلى حضرموت وهجرة الحضارم قد اثبتت حتى في قصة الف ليلة وليلة ) هكذا يقول انجرامس عن وجود الحضارم في شرق افريقيا. وكان جدي الحضرمي سالم سعيد باشطح الذي هاجر من غيل باوزير واستقر في "عيرجابو" شمال الصومال يحكي لي الكثير منها وانا طفل في الخامسة من عمري . ولكنه ابداً لم يحك لي عن حضرموت ، ربما ترك لي متعة إكتشاف ذلك بنفسي.  ومازالت أسرار كل تلك الليالي   لم تكتشف بعد ..مازالت هناك ليلة ربما نسيتها شهر زاد لم تحكها لشهر يار ..لعلها التغريبة الحضرمية !
                             (3)
 الآف السنين وهو لايمشي إلاٌ على شفرة الماء ، كان يصغي إلى نداء بعيد، واحلام يسمعها بخفوت ، ويرى أنها تستدعيه ، لم تكن حياته سهلة ، كانت مليئة بالمخاطر والخوف ، لكنه خاضها رغم كل شيء . مع الوقت تحولت إلى نوع من العادة والرغبة في السفرحتى لو كان إلى آخر الدنيا .. 
   - ماذا اخذت معك ياجدي إلى رحلة التيه ؟
   - لاتنسى اني ذهبت على عجل ، ولكني لم اذهب خالي الوفاض .. إلى الشواطيء المجهولة التي وطئتها قدماي لأول مرة حملت معي كنزاً ثميناً لايقدر بثمن .. 
    - اي كنز ياجدي وانت ذهبت تبحث عن لقمة العيش ؟!  
    -أخذت معي ، موروثي الحضاري في مختلف مجالات الحياة ، في الغذاء ، الملبس ، العادات والتقاليد ،والموروث الثقافي اللغة والشعر والغناء والقيم والمعتقدات الدينية .وبدونهالم اكن استطيع العيش .
                                 (4)
 الحضارم اكثر شعوب الأرض علاقة بالبحر ، والسيرة العظيمة لهجرة الحضارم التي سماها البعض ( الشتات الحضرمي ) وسماه الآخر ( التغريبة الحضرمية) لم تكتب كاملة ، ولعل الأجانب اهتموا اكثر بذلك من ابناء جلدتهم لأسباب كثيرة.ويمكن الإشارة هنا إلى كتابات فان دن ميولن ( حضرموت وإزالة النقاب عن بعض غموضها ) ترجمة محمد سعيد القدال .و فان دن بيرخ  (حضرموت والمستعمرات العربية في الارخبيل الهندي) ترجمة د .مسعود عمشوش . وهارد انجرامس ( تقرير حضرموت 1935) ترجمة د . سعيد النوبان . و (الشتات الحضرمي ) الذي ترجمه د. عبدالله الكاف والذي يضم عشرين بحثا علميا قدمت في مؤتمر دولي نظم في لندن سنة 1995م حول الهجرة الحضرمية . و (حضرموت في كتابات فريا ستارك ) ترجمة د. عمشوس . وغيره مما كتبه الرحالة والكتاب الأوربيون عن هجرة الحضارم .

                               (5)
 
  على مدى تاريخهم الطويل. كما يرى انجرامس (  هناك قلة من الأقطار تعيش نسبة كبيرة من سكانها في المهجر مثل حضرموت حيث يقدر عدد المهاجرين من حضرموت بين 20% إلى 30% من عدد السكان المقدر للقُطر ، ويعيش اغلبهم في الهند الشرقية وشرق إفريقيا ومصر وبعض الأقطار الأخرى المطلة على البحر الأحمر.
هذا قبل ان تتحول الهجرة الحضرمية إلى بلدان الجزيرة العربية والخليج العربي بعد اكتشاف النفط .
  ومن ضمن الإحصائيات البريطانية لعدد المهاجرين الحضارم في اندونسيا والملايووالهند وشرق إفريقيا والسودان ومصر في عام 1935م فإن عددهم كان ( 102103) وهو ماكان يساوي نصف عدد سكان الإقليم الحضرمي كما يقول محمد عبدالقادر بامطرف ( الهجرة اليمنية ) ولاشك ان هذا العدد تضاعف كثيرا منذ ذلك التاريخ ، وبحسب بعض الإحصائيات الأخيرة فإن عددهم في شرق آسيا وحدها بلغ 25 مليون ، لكن اغلب هؤلاء اندمجوا في تلك المجتمعات .
                                  (6)
 
 منذ زمن بعيد، جلب (الفتح الحضرمي) السلمي عبر التجارة إلى كل البلدان التي تواصلوا معها او استقروا فيها دينهم  الإسلامي ولغتهم العربية التي دخلت كثير من مفرداتها إلى لغات كل البلدان التي وجدوا فيها ، حيث يقدر عدد المفردات العربية 25 % من مفردات اللغةالصومالية، واللغة العربية هي اللغة الثانية في الصومال ، وهي لغة إلزامية في المدارس ، والدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة ، وفي شرق إفريقيا ( كينيا ، تنزانيا ، واوغندا )فإن 40% من مفردات اللغةالسواحلية هي مفردات عربية ، وبعض العلماء يقدرون نسبتها في زنجبار 70%.
                              (7)
    - ماذا كنت تفعل ياجدي في تلك الاقاصي، في ليالي غربتك ؟
   - وماذا غير الموسيقى ..الدان والغناء والطرب والرقص الحضرمي استعيد بها ذلك الحنين الجارف إلى حضرموت ..الأهل والولد !!
                               □
 وبمثل مادخلت مفردات اللغة الأندونيسية مع العائدين من المهاجرين وأبنائهم المولدين هناك إلى اللغة العربية في حضرموت فقد دخلت المفردات العربية هي الأخرى إلى مختلف اللغات السائدة في جنوب وجنوب شرق آسيا ، كما نقل المهاجرون الحضارم إلى مهاجرهم في اندونيسيا، كذلك الحال في شرق إفريقيا.
  يقول عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي : "يحتفظ المهاجرون في شرق إفريقيا ومازالوا بكم هائل من الموروث الإجتماعي والفني والثقافي ...فإحياء مناسباتهم الإجتماعية كالزواج تقام بنفس مراسيم الحفلات المتعارف عليها في مسقط الرأس. وتحدثت " فريا ستارك " في كتابها "الشتات الحضرمي "عن الطقوس الدينية التي تربط المهاجرين الحضارم ببلادهم حضرموت ، حيث تقام في (lamu) زيارة في اليوم نفسه الذي تقام فيه الزيارة الأم في الشحر.والمقصود بها زيارة سالم بن عمر التي تقام بين 12 _16 محرم من كل سنة. وتحدث "روبرت سارجنت " في اربعينيات القرن العشرين الماضي  في مؤلفه ( نثر وشعر من حضرموت) الذي ترجمه الشاعر سعيد محمد دحي عن رقصة الشبواني فقال : " اما سكينيskene"فيقرر ان المكلاويين في شرق إفريقيا يرقصون رقصة الشبواني ، وتعد المكلا هذه الأيام هي المركز الرئيسي لهذه الرقصة ( كما تمارس في كل حضرموت ) وقد شاهدتها مرارا في الهواء الطلق (في ملتقى شبه الجزيرةباليابسة ) وقد أطلق على المكان ( ميدان بيكاديلي ) لوجود سارية منقوشة قائمة وسط المكان ( الجابية والتاج ).الأمر الذي ينتج عنه نوع من التأثير المتبادل بين الوافدين وأهل البلاد الأصليين .
                               (8)
  وبمثل مانقل الحضارم عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم إلى مهاجرهم فقد نقل المهاجرون الأفارقة بعض فنونهم 
 التي يمارسونها في الإحتفالات العامة والخاصة التي انتشرت بين الأهالي في حضرموت وبعض مناطق الجنوب الأخرى ، " فقد مارس البعض الرقصات الإفريقية كرقصة (الليوة) في عدن وسقطرى ورقصة( الطمبرة) في حضرموت الداخل ورقصة( الباميلا) و(زامل العبيد )في ساحل حضرموت .
 ونتائج ذلك التأثير وماجرى على أساسه من تداخل وتمازج حضاري بين الأمم والشعوب والجماعات البشرية واضح في كثير من قارات وبلدان العالم ، وتعد التجمعات الإسلامية في الصومال وبلدان شرق إفريقيا والهند وسنغافورا وإندونيسيا نموذجا حيا لمثل ذلك التمازج بين شعوب تلك البلدان والوافدين العرب الذين كانوا في غالبيتهم في تلك البلدان من حضرموت ، وتظهر آثار هجرة الحضارم في بلادهم حضرموت واضحة في ملامح الناس وفي حياتهم المعيشية ، وفي تقبلهم للآخر . ويقرر د .صالح باصرة في تقديمه لكتاب " الشتات الحضرمي " الذي ترجمه د. عبدالله الكاف هذه الحقيقة بقوله : " تركت الهجرة تأثيرها ايضا في الكثير من مناطق حضرموت ، ولايزال هذا التأثير يفعل فعله في حياة الكثير من ابناء حضرموت فنجده في العمارة والمائدة وبعض التقاليد الإجتماعية،  وكذا في ملامح بعض سكان حضرموت ، إنها ملامح الوجه الميلاوي".

                                (9)
  - هل تعلم ياجدي ..ربما كنت على حق ..
 فالوضع الذي هربت منه نعيش أسوأ منه ..
 ومازال ابناؤك واحفادك يهربون منه ويواصلون  تغريبتهم .. فبماذا تنصحني ياجدي ؟..
  اخذني بين ذراعيه وضمني إلى صدره وبكى
  جدي الحضرمي الأعظم وقال لي :
  - الزم بحرك يابني ....

      ( ولمدن البحر بقية )