في البدءعندما أردت أن اكتب عن بلدتي الديس الشرقية ضمن مدن البحر    حاولت إستعادةذكريات قدتكون نقاط إرتكاز في مجرى الزمن تشكل هيكلاً اساسياً للديس المستعاد..ثم عمدت إلى الإستعانة بماكتبه وقاله غيري هناوهناك في اوقات ومناسبات مختلفة.وفي غضون ذلك وجدت نفسي أذعن للكتابة بين هذا وذاك دون ترتيب زمني،فروعة الكتابة أن تكون مفعما بروعة ماتكتب ... فمبجرد أن تبدأ حتى تتداعى الأحرف ، الكلمات،الجمل دفعةواحدة .
                       (1)
  بدءً،قديكون من المناسب أن استشهد  بوصف جميل قاله الشاعر د.مبارك سالمين :" الديس واحدة من أهم مدن حضرموت فهي من المدن التي تقع في صدارة عنقود المدن الحضرمية..مدينة البحر والنخيل والوادي والسلاحف والحصون والمساجدوالبساتين وعيون المياه الساخنة..مدينة الأمس الجميل واليوم والغد،وشم بدوية طازج،ريح ماقبل السيل،سلطانةالشرق بيداءالمحبة
والدفء،مخزن الزراعةوالشعراءوالتراث".  
وحده الشاعر يمكنه ان يعزف نصاًبهذا الجمال،وعليهاأن تتقبل هذا،ليس كإطراء صادر من إبنهاالعاشق بل كحقيقة،فهي فعلاً كل ذلك.وكم من إنسان خلبت لبه هذه المدينة؟ 
  هاهو عاشق آخر ..إبن آخر للديس الدكتور سعيد الجريري لاتستعصي عليه اللغةلوصف محبوبته:" المشقاص منطقة شاسعة متعددةالوجوه والملامح الجامعةبين البحر،وتاريخه وثقافته
،والجبل والبادية بتجليات مظاهرهما
المختلفةالعجيبة ". 
  فيما يعطي الكاتب محمد سالم قطن ، الضلع الثالث في هذا الحب تفسيرا غير بعيد: "الديس الشرقية واحدة من أشهر البلدات المركبة في ساحل حضرموت، فهي مدينةومنطقةمتعددة الأرباض والضواحي تمتعت منذ تكوينها الأول بمزيج من الحياة الحضرية والريفية معاً ،ولأن نشأتها وفق هذا التكوين قدر لها أن تلعب على مدى تاريخها الطويل دور الخاصرة في الجسم الحضرمي الكبير، بساحله وداخله، معرابه ومشقاصه ، حواضره وبواديه".
 كلهم متفقون على هذه الأهميةوالصورة المركبة للديس الشرقيةوعلى هذا الحب .. وماكلماتهم فيها سوى تنويع على حبهم لمعشوقتهم الخاصة..الديس الشرقية.. تتلاقى وتعكس صورتها كما في المرآة .  
  فما معنى الديس ؟..
                      
                      (2)

  في معجم اللغة العربية ،أن الديس هي الأرض كثيفة الأشجار..والديس جنسُ أعشاب مائية من الفصيلة السعدية يضم حوالي 121 نوعاً..وفي معجم المعاني : الشجاع الشديد الذي يدوس كل من ينازله.وفي السودان يوصف به الشعر الطويل شديدالسواد للمرأة،ولها معنى آخر،فلازال اهل السودان يطلقون على القطط ( كاديس ) تعبيرا عن الروح الطيبة.وفي الجزائر يختلف المعنى إذ يطلقون ديس على اسفل ذقن الوجه
،وفي العراق على الثذي،وفي بلدان أخرى مثل الهند فإن معنى الديس -الوطن .
وكلها تشكل مملكة التسميات في بلاط صاحبةالجلالة الديس ...
                    (3)

 الديس الشرقية..مدينة بحرية رغم بُعدها
عن البحرسبعةكيلومترات،وعن المكلا
عاصمةحضرموت 120كيلومتراً،ارتبطت بالبحرولاتزال..
  خلفة ،القرن ، رأس باغشوة .. من كان لها كل هذه الموانىء في يوم من الأيام كانت بوابتها على العالم كيف لاتكون مدينة بحرية ؟
 صنع الديسشرقاويون السفن الخشبية وجابوابهاالبحار،،ربابنةونواخذةوبحارة مشهوداً لهم بالجسارةوالخبرة في إجتياز البحار والمحيطات الشاسعة.     
  و"الديس ..صاحبةتراث بحري لايقدر بثمن،وابناءالديس الشرقيةاصحاب باع من الوزن الثقيل في علاقتهم بالبحر والملاحة.كان منهم النواخيذ الفطاحل الذين جابواالبحارشرقاًوغرباًوهم يزيدون عن (122) ناخوذة، بعضهم درس في الخارج وعمل على قيادة بواخر حديثة ". 
 
ومن ابناء الديس مثل الأستاذ عمر عبد الرحمن المقدي من بحث واجتهد وكتب ووثق دور أبناء الديس في  صناعةالسفن وتجهيزهاوصيانتهاوقوانين تسييرها،
وحددأسماء اعرق العائلات الديسية المشتغلة في صناعة السفن ".وماكان تراثاًبحرياًيتداول شفاهة صارمكتوبا ومرجعا لأي باحث يريد أن يدون هذا التراث الذي يلقي ضوءً على جزء من ثقافةالديس البحرية قبل ان يطويه النسيان.وهناأهمية ماكتبه المقدي والكلدي والمشطي ووجاهةالتاريخ ...   
وقدقطعت تلك السفن البحاروالمحيطات ، ورست في موان شتى،وساهمت في السيادةالبحريةالحضرمية على تلك البحار،وكانواامتداداًلعصور قديمةموغلة في التاريخ.(طاهرناصر المشطي : دور الحضارم في صناعة السفن الخشبية في عدن ) حتى "ان الأعداد الكبيرة التي صنعت بها تلك السفن تطلب الحاجةإلى أعدادكبيرة من نواخيذ وبحارةخبروا البحر واهواله،وعرفوافنونه وعلومه، وفي ظل عدم وجود كلية لعلوم البحارأو معاهدلتخريج بحارة،فان حضرموت ظلت المخزون الذي رفد تلك السفن التي صنعت بساحل المعلا -دكة بربابنة افذاذ ورجال اكفاء ، من نواخذة وبحارة قدموا من مناطق الساحل الحضرمي: المكلا ،الشحر،الحامي ،المقد،الديس الشرقية
،بروم، وقصيعر . وسرعان مايأخذ هؤلاء أماكنهم خلف دفاف تلك السفن ،ويعتلون ظهورها ،ويخوضون بها البحور العميقة..  إنها الريح تحملهم نحو موانىء جديدة ، او ترسو بهم في موان قديمة " .
  لقد بذل هؤلاء البحارة الأفذاذ قصارى جهدهم لترويض البحار والمحيطات بسفنهم الخشبية الشراعية،ووصلوابها إلى شواطئ الأمان غالبافي رحلات لم تكن تخلو من مخاطر وخسائر ايضاًفي الأرواح والسفن ...
  ويصفهم طاهر المشطي" بالكوكبة التي لايجود الزمان بمثلهم ابداحملوا أرواحهم على اكفهم،واكفانهم في حلهم وترحالهم ، وغامروا بحياتهم عبرلجج البحارالتي ارتادوهاعلى ظهور سفنهم الشراعية، إنطلاقاًمن مياهنا الإقليمية،مرورابالبحر
 العربي والخليج وساحل برفارس،  وصولا إلى شواطىءالهندوشرق افريقيا وانتهاءاً بالبحر الأحمر ". ومن بين كل اهل الساحل الحضرمي،كان تواجد اهل الديس الأكثر عددا في الملاحة البحرية  ( إحصائيتى الكلدي والمقدي ).
                        (4) 
  شرمة ...ميناءموغل في تاريخه ذكره
 الإغريق في كتبهم بصحيح الإسم، وقد ذكر الدكتور سعيد الغرابي (2001) أن بعثة فرنسية اكتشفت وجود مدينة اثرية تحتوي على بعض المعالم الأثرية التي يعود تاريخها إلى ما قبل 1400 سنة، وهي عبارة عن مجموعة من المنازل (65) منزلاً تقريباًوسورطوله(49) متراً ومحراب مسجد.. 
  وشرمة..إحدى اقدم المستوطنات البشريةفي الساحل الحضرمي، بقايا من قبورهم لاتزال هنا . .. 
  وشرمةخلقت في اجمل بقعة بين شطين..خليج يطل على ميناء القرن .. وساحل مفتوح على بحرالعرب،اتخذت منه السلاحف الخضراءالنادرةمستوطنة منذ وضعت اول"حمس"بيضها في هذه الرمال ذات قرن..ذات شرمةويأتي بنسلها الحنين واستمرار النوع إلى موطنهاالأول ! 
    تكون في شرمة ،،، فيقول البحر لك تعال،فلا تستطيع مقاومة إغراء ندائه .. وبحر شرمة لايشبه أي بحر،واجمل من أي بحر .. 
    في الليل نرقب تلك الكائنات البحرية العملاقة تخرج من المحيط إلى الشاطيء ، تزحف على الرمال ببطء ضاربةبزعانفها ، تحفر عميقا،تضع بيوضها،تطمره،وتتخذ طريق العودة إلى المحيط..مشهد لايتاح لكل إمرءِِأن يراه،وان رآه لاينساه ويبقى من مرويات شرمةوالقمر .. 
   هذه البقعة تستقبل في كل يوم الزوار  .. هناكان جدنا الشيخ حاج سعيد بحاح يأتي كلما أراد الإعتكاف والتفكير في ملكوت الله..ولاشك انه كان يجد راحة النفس وبهاء الروح..وكم مرة كان الشاعر المعلم حميدان هنا يشاغل شعره موجه؟ واين سيجد فضاءاًللشعرأفضل من شرمة رغم الفضاءات الرحبة في الديس،وفي دنيا الخيال؟! يسيل مع المجرى،ويهيم مع الملكوت،ويعيد تشكيل الحروف، والقوافي وتصدح بهاالبلابل في الأيام الآتية..لامعنى للجمال وحده دون فنان يراه ..
                       (5)
مضت عشرات السنوات وربما المئات مذ كانت شرمة ميناءاًتاريخيا ذائع الصيت ، اليوم لم تعد كذلك،لكنها لم تفقد شهرتها
 وبريقها،واحتفظت بجمالها الأخاذ الذي لايُضاهى،فما تزال من أجمل بحار الله سحرا، واينما التفت لاترى سوى شاطئ من أجمل شطآن الدنيا. مفعما بالجمال ،  ..رماله بيضاء فضية، ومياهه صافية ...تحتل موقعا فريدا في هذا المحيط الشاسع..
  كل من يراها يقع في عشقها،الباحثون عن التأمل في الكون وبديع السماوات والأرض يعتكفون فيها،والشعراءالباحثون
 عن الإلهام ، والساعون إلى مواطيء المتعة وجمال الطبيعة يغرمون بها ما ان يروها..والمثل الحضرمي يقول " ماحُب إلا في شرمة " وهي تتمتع وتنماز بكل ذلك ،، هنا يأتي الزوار من كل حدب وصوب،الكبار والصغار والنساءتاركين كل شيء وراءهم لإقتناص لحظة من السعادة
الحسية والجسديةوالنفسية في بحر
شرمة.وهي تمنح كل ذلك وأكثر منه بسخاءغير محدود..تضفي شاعرية باذخة على المكان والزمان،وتبقى ذكرى لاتزول او تُمحى من الذاكرة...
تحتل شرمة 30 ألف هكتار من الشواطئ والأراضي الساحلية.تحدها من الشرق  قصيعر،ومن الغرب منطقةالقرن، وشمالاً مدينتي الديس الشرقية،وجنوباً البحر العربي. 
                       (6)
  وكانت هذه الديس تسلمنا ونحن في  شرخ الصبا إلى الشمس،وإلى فرح الذهاب إلى ميناء القرن وبحرشرمة، وكانت شرمة دهشتي الجميلة،وكنت طفل الديس المفتون حيث أنتظر تلك اللحظة المسائية المبهرة ...السلاحف الضخمة التي ستأتي من البحر بعد قليل في طريقها إلى مواقع التعشيش التي اعتادت أن تضع بيوضها فيها منذ التكوين ..وفي طريق عودتها إلى البحر  أعتلي ظهورها،، مازلت ارى نفسي طفلا يركض خلف صغارها التي تحبو باصرار فوق الرمال شاقةطريقها لأول مرة نحو البحر ، وانا أراها يبتلعها نفس المحيط الشاسع ....
كانت( الحُمس )تتحمل عبثي الطفولي البرىء،،،لااستوعب هذه الأيام أن هناك من يذبحون بوحشية مفرطة تلك الكائنات الوديعة ويبعثرون اشلاءها لمجرد المتعة او بيع لحومها للحصول على بعض المال الملوث..وحشية كافية لأن تهزني من الداخل ! ولابد أن يكون هذا شعور كل من يملك ذرة غيرة على البيئة ومحمية شرمة...ماذا تكون شرمة بدون تلك المخلوقات الوديعة الجميلة النادرة والمهددة بالإنقراض ،،
 بدون ذلك الموئل للشعب المرجانية والاسماك الملونة ،، بدون الموائل  للأعشاب البحرية التي تغدي العديد من الكائنات البحرية..ماذا تكون بدون كل ذلك التنوع الحيوي ؟!
  لاينبغي أن نسمح للقتلة بالإنتصار ...
  
             (ولمدن البحر بقية)