اسم شرمة وحده يُثير فيّ مشاعر مفرطة لاتنتهي..بعض الأماكن لاتستطيع الفكاك منها مهما مرمن عمر وعدى من زمن .
  اتساءل دائماً لماذا يختفي ذلك الحب لبعض الأماكن ثم يبرز فجأة ..؟
 اشكر الله انني عرفت شرمة في وقت مُبكر من حياتي، ويبدو انني وقعت في حبها منذ ذلك الحين .
  ابي اول من اخذني إليها ،اعتقد كنت في العاشرة من عمري ..آه لو كان يدري ماذا فعلت بي تلك الزيارة القصيرة،،،، لشرمة؟ وماذا تفعل حتى الآن بعد مرور كل هذه السنين ؟ ستون سنة وأكثر قليلاً..
لولاوجوده -ابي- في حياتي ربما لم أكن رأيت شرمة،والكثير من الأماكن التي أخذني إليها في السنوات المبكرة من عمري ذاك ،،، وهي التي شكلت ذاكرتي الأولى ...
  كان ابي رحمه الله يحب الرحلات ،او مانسميه اليوم السياحة الداخلية. أذكر انه كان ينظم مع اصدقائه العرب من  الحضارم الذين كانوا يقيمون في عيرجابو إحدى كبريات مدن شمال الصومال التي حباها الله بجمال الطبيعة واكثر شمال البلاد اخضرارا وتنوعا بيئيا ، رحلات اسبوعية إلى الغابات المحيطة في المدينة، كانوا ينطلقون في الصباح الباكر سيرا على الأقدام،حاملين معهم زوادهم ويقضون النهار وسط أجواء الطبيعة الخلابة،وكنا نحن الصغار نمضي الوقت في الركض وراء الفراشات الملونة والأرانب واحياناخلف الخنازيرالوحشية،
وسط صيحات وتحذير الآباء الا نتمادى في مطاردتها خوفا علينا من انيابها الحادة المنحنية ،وهذه المخلوقات شرسة لاترحم إذا شعرت بالخطر على صغارها ! 
اما في الصيف فكان يأخذنا واخوتي إلى البحر حيث يعيش خالي سعيد سالم باشطح في " ميد "..ميناء صغير مثله مثل حيس ولاس قوري لكن ليس بأهمية موانىء مقديشو وكسمايو وبربرة وبوساسو... تأتي إليه السفن الخشبية الشراعية من عدن وحضرموت وصور العُمانية تحمل إليه المواد الغذائية والملابس ومواد البناء، وتنقل منه بالمقابل الأخشاب والمواشي والجلود واللبان والمهاجرين الى عدن. فكنانلقي بعرينا في البحر ونحاول ان نصل إلى حيث ترسو السفن...  
  وعبر "ميد" هذه ركبناساعية إلى عدن ومنها عدنا إلى بلدتنا الديس الشرقية حيث رست في ميناء القرن غير بعيد من شرمة.
                       (2)

 لم يتخل ابي عن عادة القيام بالرحلات، وكانت شرمة إحدى وجهاته المحببة..إذ كان يحب البحر كثيرا ،، ويبدو انني ورثت منه هذا العشق ،، لايوجد مكان في الدنيا على مااعتقد لاتشعر فيه بحريتك وحيويتك مثلما البحر...وشرمة بالذات من البحار الساحرة الإستثنائية التي تستدرجك إلى حبها دون ان تدري ...
  في الفترة الأخيرة، صرت مغرماًلابالبحر ومدن البحر فقط، بل بتاريخها،وحكاويها 
،وقصصها وحياة الناس والكائنات فيها ،،   مما لم أكن اهتم به كثيرا في الماضي ..
                     (3)
 
  ارسل لي الباحث طاهر ناصر المشطي موضوعا ضافيا عن شرمة. كنت ارسلت   له قبل اكثر من شهر تقريبا ان يساعدني بما لديه عن موانىء الديس الشرقية القديمة استعين بها في الكتابة عن مدن البحر وخاصة عن بلدتي وبلدته الديس الشرقية. حينها كان مشغولاً بالاستعداد للمشاركة في المؤتمر الخامس لمركز حضرموت الذي عقد في سيئون  وشارك فيه ببحث عن دخلة الديس ،
لكنه وعدني الاهتمام بطلبي وقد وفى بوعده فور عودته من المؤتمر، فله مني الشكر الجزيل .
والمشطي (بكالوريوس جغرافيا - جامعة عدن. مهتم بتاريخ حضرموت والمهرة
وتاريخ مدينته الديس الشرقية بصفة خاصة، وصدر له كتاب عن  المعالم الحضارية العسكرية في الديس.
 ●عمل موجها تربوياًللموادالاجتماعية
بمدارسها.
 ●رئيس قسم التوثيق بجمعية التراث والآثار بمديرية الديس الشرقية. 
 ●باحث في تاريخ حضرموت والمهرة،
 ●له عدد من المشاركات في الندوات والمؤتمرات في حضرموت وعدن والمهرة، وله كتابات في عدد من المجلات.) 
  اجد نفسي معنياً باشراك القاريء في التعريف بما كتبه عن شرمة ففيه سياحة بعالم شرمة الرائع والمتنوع، لاغنى عنه للقاريء، مستندا إلى العديد من المراجع التاريخية العربية والأجنبية.  
 الموضوع بعنوان : (شرمة .. منتجع حضرموت السياحي ومحمية لنظام حيوي فريد ونافذة حضرموت التاريخية على المحيط الهندي ) . واستأذن الأستاذ طاهر المشطي إن تغلبت عليً حرفة الأدب أحيانا فتصرفت في بعض ماكتبه عن شرمة ، كما ارجوه قبول اعتذاري فهذا داء لا أجد له علاجا..واكرر له جزيل شكري .
                     (4)

 بداية ماهو الشُرم ؟
  الشُرم أو الجُون  (بالإنجليزية: cove)‏ هو خليج صغير أو نوع من الخليج المحمي على ساحل محيط أو بحر أو بحيرة. أحيانا يكون بوغازا ( مضيق )صغيرا لخليج أكبر أو مدخل لبحيرة شاطئة، يتكون من مدخل ضيق وهو ما يحمي المياه داخل الخليج الصغير من التيارات الدوامية والمضطربة من المسطحات المائية الأكبر.
 ● "جاء في القاموس المحيط :الشُرم لجة البحر اوالخليج منه.وفي صحاح الجوهري : وشرم من البحر خليج منه .
فشرمة إذاً خليج بحري محمي برأس صخري ممتد يحميه من الموج والرياح." ومن هنا كما هو واضح اخذت شرمة اسمها... 
 ●"امتداد رأس شرمة كذراع من اليابسة نحو البحر، وتكوين خليج شرمة بفعل نحت الأمواج لصخور الشاطئ كوّن  ميناءً طبيعياً لترسو فيه السفن. ونظراً لارتفاع رأس شرمة نسبياً وبروزه في البحر، فإن السفن المارة بالقرب منه تسترشد به أثناء مرورها أمامه، لذا فإن رأس شرمة يعتبر معلماُ ملاحياً يسترشد به الملاحون المارون بسفنهم أمامه منذ القِدم، وذكر رأس شرمة في روزنامات الملاحين، ومرشداتهم الملاحية، لعل أشهرها مرشدة الملاح سعيد بن سالم باطائع (الإرشادات الملاحية من مسقط إلى بندر المخا) التي كتبت سنة 1805م حيث يقول:

"شرمة نراها ..... ... والقرن كلٍ بغاها
ماشي كماها ....... وادي فروعه قوية 
ذا رأسها أرفع .. أضرب بطاسه ومرفع عشرين مدفع ......والفاتحة والتحية
للشيخ محضار ... يظهر كرامات إظهار
بليل ونهار  ...ما في العقيدة خفية"
                   (5)
 ● ورد أقدم ذكر لميناء شرمة باسمها المعروفة به اليوم في خريطة بطليموس الإسكندري عالم الرياضيات والجغرافيا والفلك الاغريقي المتوفي عام 167م، و قد وضع هذه الخريطة في أجواء سنة 140م. ذكر اسم الأسعاء ( الشحر) و سماهاAlasa Emporiam وذكر إلى غربها ميناء ( بروم ) وإلى شرقها ميناء شرمة إضافة إلى العديد من المرافئ القديمة التي لا يستطاع تبيان أسمائها الصحيحة على الخريطة المذكورة (محمد عبدالقادر بامطرف - الشهداء السبعة ( ص٢) كما ذكرت في العديد من مصادر تاريخ العصور الوسطى منها: كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للشريف الادريسي (المتوفى سنة560هـ ) الذي وصف فيه الطريق من ميناء عدن إلى ميناء شرمة، ومنها إلى مرباط ( الجزء الاول ص ٥٥ - ٥٦) ، كما ذكرها شيخ الربوة العلامة الصوفي  شمس الدين أبي عبد الله محمد أبي طالب الأنصاري الدمشقي وهو من أهل القرن السابع الهجري (654 - 727هـ  ) في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر و البحر ص ٢١٧) باعتبارها ثاني أهم موانئ حضرموت في تلك الفترة ، كماذكرها
المقدسي (البشاري)ضمن قائمةالتجمعات الموجودة على الساحل الجنوبي العربي وذلك في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم(ص٣٥) ؛ وذكر صاحب كتاب: تاج العروس من جواهر القاموس: إن شُرْمَة : قَرْية بِحَضْرَمَوْت اليَمَن وغيرهم.
 مرت شرمة بمراحل ثلاث من الإسيتطان منذ عصور ماقبل التاريخ ، والعصور الوسطى ، والعصور الاسلامية مما يشير إلى قِدمها . 
                     (6)
  الأرواح المحبة تحوم حول المكان .. ويبدو انني كنت إحدى تلك الارواح التي عاشت هنا في زمن ماموغل في القِدم .. وإلا ماالذي يجعلني منجذباً كل هذا الإنجذاب لشرمة؟ 
  أحببت شرمة..أحببت عنفوانها ، منذ عصور ماقبل التاريخ. لايذكر الناس الكثير عن تاريخها في ذلك العصر،كانت جميلة وساحرة ، وهي تتفتح بألوان الأزرق اللازوردي بين لجةالبحر والمحيط الشاسع،كصباح بحري : هل كانت تلك روحي فعلا وعشت ذلك العصر ؟ ام كان مجرد خيال اوحلم عابر..؟ لا ادري !
لكن شيئا،أحدا ما يقول انه رآني في
 ذلك العصرحيث تركز الإستيطان بدرجة رئيسة على الهضبة الغربية، المتصلة برأس شرمة (شبه جزيرة شرمة) هل تذكرين إنا وقفنا يوما عند خليجنا الجميل ، ننزلق على موجاته الهاربةعلى ذلك الشاطىء الأحفوري القديم ..كتلة كبيرة وواسعة من مجموعات المحار الحجرية،، سري المتبقي هناك،،وجود هياكل المستوطنات البشرية المرتبطة بالمادة الحجرية على الرصيف الصخري،،، قبور ماقبل التاريخ ، لعل احد تلك القبور الذي كشفت عنه اكسيل روجيل من بين الرمال وطبقات الأرض، هوقبرجدي،،،
احداجدادي الأولين الذين استوطنوا شرمة وجئت من ذلك النسل البعيد . 
هل جرب احد لذة الإنتظار كل هذه القرون من الزمن كما جربته شرمة، حتى تأتي الفرنسيةاكسيل روجيل لتكشف ان شرمة استوطنت منذ عصور ماقبل التاريخ وخلال مراحل التاريخ وحتى الوقت الراهن ؟ لم تمل الإنتظار وهي تستقبل السفن عندما كانت من أشهر الموانىء ، ولا وهي تنظر إليها وهي تعبر  بعيدا إلى موانىء أخرى بعد ان تم هجرها ، وفي كل هذا التاريخ المديد كانت تزداد جمالا والقا في عيون عشاقها الكثيرين .
   كيف صبرت كل هذا الزمن دون ان تشيخ؟
                   (7)
  ●"استكشف موقع ميناء شرمة منذ الحملة الأولى للمسح الميداني في عام1996م ، الذي قامت به البعثة الفرنسية ،وأيضاموقع القرون الوسطى في سهل في نهاية الرأس، على حافة الخليج الغربي (البحر القبلية). توضح ماكان عليه..مجرد تجمع صغير إلى حد ما - حوالي 5 هكتار – حيث معالم الجدران واضحة بخطوط على الأرض" لكنه كان ذات يوم يضج بالحياةوالنشاط. "والموادالسطحية المكتشفة غنية للغاية،، غالباً ما تكون مستوردة، ويرجع تاريخها بالكامل تقريبا الى القرن الحادي عشر
وخاصة من الصين " عندما كانت السفن الحضرميةتصل إلى الصين والعكس. 
 ●"دراسة السطح السريعة التي اجريت أبرزت أهمية الموقع وسلطت الضوء على اهتماماتهالاستثنائية.والتنقيبات الأثرية التي جرت في الأعوام 2001- 2005م أثبتت ان موقع ميناءشرمة - حضرموت كان ميناءًا تجارياً لعبور السفن والمراكب وتصدير واستيراد ونقل البضائع عبر شبكات الخطوط التجاريةللمحيط الهندي في القرون الوسطى.كماأظهرت نتائج أعمال التنقيب عن الآثار في شرمة من قبل البعثة الفرنسيةحقيقةهامةجداًوهي: إن منطقة شرمة قد استوطنت في مختلف الأوقات والأزمان، منذ عصور ما قبل التاريخ إلى العصر الحديث."
 ● في المرحلة الثانية: مستوطنة حضارة جنوب الجزيرة العربية: تركز الاستيطان على الهضبة الشرقية، والتي تشرف على الميناء مباشرة. وآثار الاستيطان هنا أقل من المرحلة السابقة وأبرزها الشرفة المغليثية الكبيرة، والمقبرة ذات القبور الدائرية  اسفل الهضبة.(يرجع مصطلح 
الأحجارالمغليثية (بالإسبانية: Megalitismo)‏ إلى الأصل اليوناني (Mega) ضخم، و (lithos)حجر. 
 ●المرحلة الثالثة: (مرحلة العصر الذهبي) ،  مستوطنة فترة الحضارة العربية الإسلامية المبكرة:و هي من أهم مراحل الاستيطان في ميناء شرمة ، إذ تركز الاستيطان في السهل الساحلي باتجاه خليج شرمة ( الميناء /الفرضة ) ، حيث تكونت مستوطنة محصنة بالأسوار و القلاع ، وتضم المستودعات والسوق و المسجد و المقبرة الإسلامية ...و غير ذلك ، حيث كان ميناء شرمة في هذه الفترةمركزاً رئيساً للتجارة الدولية،ازدهر الميناء ازدهاراً عظيماً لم يسبق له مثيل على مدى تاريخه ، إذ اعتبر  واحداً من أكثر الموانئ ازدحاما في غرب المحيط الهندي خاصة في الفترة من نهاية القرن العاشر الميلادي حتى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي ، قبل ان يتم التخلي عنه على الأرجح في النصف الثاني القرن الثاني عشر الميلادي و هجره. وبهذا فان شرمة كانت ثالث ميناء على مستوى الجنوب العربي بعد الشحر وعدن. وثاني أهم موانئ حضرموت في تلك الفترة. ( المشطي .طاهر ناصر . شرمة نافذة حضرموت التاريخية على المحيط الهندي).

       (ولمدن البحر بقية)