حين يلتقي أبو العلاء المعري بدانتي في عالمٍ واحد.
حاولتُ مرارًا وتكرارًا أن أُكمل قراءة "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري بنسختها الأصلية (تقارب 700 صفحة). كنت أبدأ بشغف، أقرأ مئة صفحة، ثم يُصيبني الدوار... فأتركها. ثم أعود لأكملها بنفس الحماسة، قبل أن أغرق مجددًا في لغتها المتشعِّبة، وأساليبها المعقّدة، واستطراداتها التي تأخذك في طرق جانبية لا رجوع منها.
قرأتُ نسخًا مختصرةً وشروحاتٍ كثيرةً وطبعاتٍ مختلفةً، لكن شيئًا منها لم يُطفئ شغفي، ولم يمنحني متعة القراءة التي يستحقها هذا النص الخالد. كان النص يراوغني، يصدّني، يدعوني ثم يغيب في غموضه. وكأني كنت أدور حوله في دائرة حلزونية لا نهاية لها.
حتى جاء اليوم الذي حدّثني فيه صديقي البروفيسور حبيب سروري عن مشروع يعمل عليه:إعادة كتابة "رواية الغفران" — الجزء السردي من رسالة المعري بلغة حديثة، بصيغة مبسَّطة، تسمح للقارئ العربي المعاصر أن يدخل إلى هذا العالم العجيب دون أن تُرهقه اللغة أو تُقصيه المعرفة الموسوعية التي يتطلبها النص الأصلي.
أخبرني حبيب، بحماسه المعهود ، أنه سيضع "الغفران" في حوار أدبي مع "الكوميديا الإلهية" لدانتي، في عمل سيحمل عنوانًا دالًا: "كوميديا الغفران.
وهكذا وُلد هذا الكتاب.
في "كوميديا الغفران"، لا يسعى حبيب سروري إلى كتابة دراسة مقارنة تقليدية، بل إلى تقديم رحلة أدبية متقاطعة، تُحيي عملين كبيرين — "رسالة الغفران" و"الكوميديا الإلهية
— من خلال نصٍّ نابضٍ، حرٍّ، عابر للزمن.
يعيدنا إلى أبي العلاء، صاحب "لا إمام سوى العقل"، الذي سبق دانتي بثلاثة قرون، وابتكر رحلته السردية إلى الآخرة، عبر عالم خيالي يسرد فيه حياة البشر بعد الموت، ويدخلهم الجنة أو النار وفق رؤيته الشخصية، بأسلوب ساخرٍ، فلسفيٍّ، لاذعٍ، شديد الخصوصية. (اضحكني موقفه
من الشفاعة)
لكن بينما نُقلت "الكوميديا الإلهية" إلى عشرات اللغات، وتُدرَّس في المدارس والجامعات، وتعيش في مخيلة القرّاء منذ سبعة قرون، بقيت "رسالة الغفران" في عزلة طويلة.
لغتها العالية النخبوية، واستشهاداتها الكثيفة، وتعقيدها الفني، جعلت منها نصًا عسيرًا، لا يتجاوزه إلا المتخصصون. وهذا ما أراد سروري أن يكسره.
في هذا العمل، يعيد كتابة "رواية الغفران" بصيغة معاصرة، رشيقة، تُبقي على جوهرها وجمالياتها، لكنها تُسهِّل الولوج إليها. ألغى بعض الاستطرادات الثقيلة، وأدخل جُمَلاً توضّح الغامض، واستبدل الكلمات النادرة بأخرى مفهومة. كل هذا، دون أن يُشوِّه النص أو يُسطِّحه، بل بحبٍّ ظاهرٍ، ووفاءٍ لما كتبه المعري.
وفي الوقت ذاته، قدَّم مختاراتٍ حيةً من "الكوميديا الإلهية"، مستندًا إلى الترجمة الشعرية الرائعة لكاظم جهاد، ومستلهمًا من مناهج التعليم الفرنسي التي تُبسِّط النص دون أن تُفرِّغه من عمقه.
جمع بين مشاهد من الجحيم والفردوس، وانتقل بسلاسة بين صوت دانتي وصوت أبي العلاء، ليقدِّم للقارئ العربي رحلة مزدوجة في عالم ما بعد الموت، حيث تتجلَّى الأسئلة الأبدية عن المصير، والغفران، والعدالة، والمعنى.
في الفصل الأخير، يُطلق حبيب حوارًا تخييليًا حرًّا بين المعري ودانتي، في سردية فلسفية تتقاطع فيها الرؤى، وتتناوب فيها الأسئلة. لا يدَّعي الكاتب أن أحدهما اقتبس من الآخر، ولا أن بينهما علاقة مباشرة، بل يقدِّم المقارنة بوصفها تلاقيًا وجوديًا بين عقلين عبقريين، كلاهما عبَّر بطريقته عن قلق الإنسان أمام المجهول.
والأهم من كل ذلك، أن هذا الكتاب يُشعل الرغبة لدى القارئ العربي، ليس فقط لقراءة "كوميديا الغفران"، بل للعودة إلى النصوص الأصلية: إلى "رسالة الغفران" بلغتها الكاملة، أو"الكوميديا الإلهية"في ترجمتها الشعرية الميسَّرة.
فهو لا يكتفي بإعادة تقديم العملين، بل يفتح أبواب عشقهما من جديد.
لايمكنني هنا، في هذه الانطباعات الأولية ،أن انسى الفصل بالغ الأهمية في الكتاب: "رواية الغفران: قراءة كاشفة" الذي يقدم فيه حبيب سروري الرواية، انطلاقا من الرؤية الفلسفية لمن قال"لاإمام سوى العقل" على نحو"يشعل فتيل المتفجرات التي تكمن فيها" حسب تعبير فالتر بن يامين كما تقول مقدمة الكتاب.
لهذا الفصل النقدي الابداعي اهمية في نظري لأنه يدخل في أعماق رواية الغفران، ويكشف، بعيد عن اي نفاق اعتدنا عليه في القراءات الادبية التقليدية التي تمس المعتقدات القديمة،رؤية العظيم الخالد المعري الذي سبق عصره بقرون،حول كل المسلمات الدينية وقصصها الميثولوجية.يستحق هذا الفصل لوحده دراسة لاحقة.
"كوميديا الغفران ليست مجرد كتاب، بل مغامرة أدبية أصيلة، تعيد الاعتبار لنص عربي عظيم، وتُعيد قراءة دانتي من زاوية مختلفة. وفي النهاية، كما يقول دانتي:
"المحبّة التي تحرّك الشمس والنجوم"،
وكما يقول المتنبي:
"لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ ... فليُسعفِ النطقُ إن لم تُسعفِ الحالُ."
وهنا في هذا الكتاب يسعفنا النطق وتبقى الكلمة.
#mohamedalshagga #لندنيات #ادب #habibabdulrab #كوميديا_الغفران