التواهي... المدينة التي تسكنني
زرت مدنًا كثيرة، في اليمن وخارجها، غير أن التواهي تبقى المدينة التي تأسرني كلما مرّت في الذاكرة. فيها شيء لا يشبه سواها، ربما لأنها مربّع الطفولة والصبا، أو لأن نسيمها وحده كان يعرف كيف يربّت على قلبي.
للتواهي عبقٌ لا يتكرر. تختلط فيها رائحة البحر بنفحات الحنون، وشذى الورد برائحة شجرة المريمرة المميزة، ويجيء البخور والفل من كل بيت ليكملان المزيج الساحر. مدينة صغيرة، بشوارع قليلة، لكنها كانت عالمًا كاملًا: فيها السينما والمسرح، وملاعب الكرة والسلة والطائرة والتنس، والمدارس والأسواق والمخابز والمطاعم... كل شيء بحجمه الصغير الجميل، كأنها لعبة طفلٍ متقنة الصنع.
أحنّ إلى التواهي حنينًا موجعًا. ولو قُدّر لي أن أعود إليها، لبدأت رحلتي من علي أبو السياكل، هناك حيث كنا نضحك بلا سبب، ثم أمرّ على كشك الهريسة أستعيد طعمها الذي لم يفارق لساني منذ سنين. سأبحث عن بائعة الفوفل الملبّس، لعلها ما زالت تبتسم كما كانت، وسأعرّج على مطعم عبدالله الطباخ ومشرب سعيد علي لأستنشق عبق الأيام القديمة.
سأزور مكتبة الشيباني التي تعلّمت فيها لذة القراءة، وأجلس في مقهى الدبعي أرتشف الشاي ببطء كمن يحاول أن يوقف الزمن. ومن هناك إلى مشرب راوح لأتذوق شراب الزنجبيل كما كان يُعدّ بالحبّ لا بالماء المحلى فقط.
وسأقف أمام المسرح الوطني، أتمنى أن أراه كما كان، تُعرض فيه المسرحيات وتقام الحفلات، وتعلو فيه ضحكات الناس. سأقطع تذكرة في سينما مستر حمود لأشاهد فيلمًا لا يهم اسمه، يكفيني أن تعود تلك المقاعد الحمراء إلى الوجود.
سأمشي نحو نادي شباب التواهي، الذي صار في منتصف السبعينات نادي الميناء، النادي الذي حمل أحلامنا الصغيرة ونحن نركض خلف الكرة في أيامٍ كانت الحياة فيها أبسط وأجمل.
سأمرّ بـ مبنى التلفزيون ووكالة أنباء عدن، وسأتجنب النظر إلى مقر أمن الدولة، هناك حيث عملت وتركْت شيئًا من نفسي لا أريد استعادته.
سأبحث عن أصدقائي القدامى، عن مدرّسيّ الذين غرسوا فينا الحلم، عن الوجوه التي عبرت الذاكرة وما زالت تلوّح من بعيد. سأقبّل كل من ألقاه في طريقي، علّ شيئًا من روحي التي وضعتها في هذه المدينة يعود إليّ.
التواهي... ليست مكانًا فحسب، بل زمنٌ أُغلق بابه وبقيت أنا خلفه أطلّ من شقوق الحنين.