في سنة ما ، من نهايات القرن التاسع عشر غادر سالم سعيد باشطح  " الحار "  غيل باوزير . تراه كان يواصل التغريبة الحضرمية التي لاتنتهي؟ او كان هاربا من شيء ما ، تاركا بيته واملاكه واسرته ولم يعد إليها ابدا .. 
  ركب سفينة شراعية حطت به في الجزء الافريقي من الشاطيءالأوساني ، وبعد مدة  تزوج بامرأة صومالية اسمها " ابوللونوح "  انجبت له الكثير من الأولاد ، منهم أمي حواء .. وهكذا سيصبح جدي ! 
   لم يكن الوحيد طبعا ، فقد كان هناك حضارم آخرون جاءوا مثله من غيل باوزير ، من ال باشطح ايضا منهم العم عوض عمر باشطح ،  ومن ال بن همام ، ومن الديس الشرقية ، من ال باوزير ، وابي عمر احمد بحاح ،استقروا في عيرجابو احدى اكبر مدن شمال الصومال وكونوا مجتمعا عربيا صغيرا ، عمل في تجارة الدكاكين  .. 
 جدي سالم الحار وهذه كنيته ، كانت له نظرة اخرى .تزوج من إمرأة من اشهر القبائل ، فكانت له مزرعة في حماص ، غير بعيد من عيرجابو ، تزرع الذرة الشامية والقمح وتربى فيها الماشية . 
   ربع القامة ، كان جدي،قوي البنية ، احمر الوجه ، شديد الغضب ، وربما لهذا لقب بالحار ! 
   احببت جدي سالم كثيرا ، وكان شديد الحب لأمي ، ويعتبرني عكازه وعينيه اللتين يرى بهما بعد ان فقد البصر إثر عملية اجراها له طبيب إنجليزي زائر في مستشفى محلي ، اذهب به إلى حيث يريد .. إبنته خالتي مريم وهي اخت غير شقيقة لأمي ، تدير دكان زوجها المهاجر في إنجلترا .. زوجته التي تعيش في خلة خارج البلدة .. اصدقائه من ال باوزير وبن همام ، واحيانا كانوا يزورونه إلى بيتنا ، خاصة في الأعياد .
   اماحين يريد الذهاب لرؤية زوجته الأخيرة جدتي ابوللو ،فقد كان يركب بغلته " ام كعوب ذهبية " كما اطلق عليها ، إلى حماص حيث مزرعتهما . كانت بغلة قوية وذكية تعرف طريقها فتوصله وجهته بمجرد امتطائه لظهرها والهمس في اذنها ، لكن بعد ان فقد البصر كانت جدتي تخاف عليه،فكانت هي التي تأتي لأخذه اواحد اولاده الكبار ، خالي محمد او خالي احمد . اما خالي صالح فكان موظفا في المدينة . وكان يحب اغاني فريد الاطرش ، وكثيرا ماسمعته يردد اغنيته ( عوازي الفلفلو ) . واظنه سمعها من راديو عدن او إذاعة جيبوتي ،  وقد توفي وانا في مصر قبل عدة سنوات . 
    مازاده الظلام إلا نورا ، جدي من الليل صنع حكايات ، ومن قساوة فقد عينيه  قصصا لأحفاده وكانه يخلق ذاته الجديدة ، قصة من الف ليلة وليلة كل ليلة ، لعلها تعوضه عن رؤية العالم الذي لم يعد بوسعه ان يراه ، تدخل السرور إلى احفاده ، تأنس روحه ،وينسىالوجع ! 
  كان ياماكان .. يبدا جدي كل قصة : في سالف العصر والأوان ....
 ستكون هذه الآفاق تدفقه الليلي ، عالمه الساحر الذي سيصبح عالمي ايضا ، يطرد النوم من عيني بقصصه ،السندباد البري والبحري ، طيور الرخ القادرة على حمل إنسان إلى قمم الجبال لتجعله طعاما لفراخها ح، قطرحنة ، مصباح علاءالدين . وكيف لي ان انام وقدفتح جدي مغارة علي بابا على الأربعين حرامي ، وعلى كنوز من اللؤلؤ والمرجان ؟ سيدخلني المغارة ويخرجني بكنز من الحكايات قبل ان تنطبق الصخرة ويسد عليهم باب الخروج ! 
 وكان ياماكان.. وقبل فوات الاوان كانت شهر زاد التي غامرت برأسها تأتي كل ليلة بحيلة  لتنقذ رقبتها من سيف شهر يار حتى تكبح تاريخه الدموي وشهوة القتل لديه ، وبهذه الحكايات استطاعت ان تستيقظ كل صباح ورأسها بين كتفيها . انقذت بنات جنسها وتوقف تاريخ الألم إلى حين ، إذ ان شهر يار بعث على صورة كل سفاح حكم بالحديد والنار ولم تتوقف شهوة القتل لديه عند قتل النساء بل شملت الرجال ايضا ! لكن تاريخ الاساطير لم ينته ! فمازال جدي يتكلم ويحكي لي  الحكايات ويجد فيها السعادة والراحة
 من الألم ..
  اعتبر نفسي محظوظا كثيرا إذمنحني الله جدين رائعين مثلهما يعرفان كيف تكون الحكاية ! 
   يوم مات جدي سالم حزنت كثيرا ، لم افقد جدا فقط ، ولكن شعرت اني فقدت احد جناحي اللذين اعتمد عليهما في الطيران نحو عالم الخيال والقص ، وقد فقدت جناحي الآخر يوم ماتت جدتي ابوللو بعده بسنوات ! لكن كان قد نبت لي بعض الزغب والريش الذي كونت منهما اجنحة صغيرة تساعدني على الطيران .  
   جدي سالم الحار ، له أبناءا آخرين  ، من غير جدتي ابوللو ، وكانت إحدى زوجاته الحضرميات التي جاءت معه اولحقت به ، تعيش في عيرجابو ، وفقدت البصر مثله ، تسكن خارج المدينة ، وكنت اذهب به إليها مع اولاد خالتي مريم لزيارة جدتهم بين وقت وآخر .. وطبعا كانت له زوجته الاولى في غيل باوزير ، وله ابن منها هوخالي سعيد ، جاء في اثر ابيه ، وعاش في ميناء ميط ، كما له ابنة ظلت في الغيل . 
 اول مرة ذهبت فيها إلى غيل باوزير رأيت في سمائها الشفيفة صورة جدي سالم الحار ، وكنت رافقت أمي التي ارادت التعرف إلى اختها من ابيها  - خالتي فطوم - من بيتنافي الديس في بدايات ستينيات القرن الماضي .. 
  ياالله كم تشبه جدي سالم ، تكاد تكون صورة طبق الاصل منه . ولخالتي فطوم ابن لايزال يعيش في غيل باوزير اسمه سعيد محمد باشطح ..
   وفي حين عاد حضارم عيرجابو بعد إستقلال الصومال سنة 1960م إلى حضرموت ، وطنهم الأصلي الذي جاءوا منه ، مدفوعين بالخوف ان يجري لهم ماجرى للعرب بعد استقلال دول في شرق افريقيا. الا ان اخوالي ال باشطح ، الذين ولدوا فيها بقيواهناك ،تزوجوا وانجبوا اجيالا جديدة يعرفون جذورهم العربية الحضرمية لكنهم لم يروا حضرموتهم ابدا وأصبحوا جزء من مجتمع عيرجابو وصار لهم فيها نفوذ ، لكن اولادهم احفاد جدي سالم الحار مازالوا هناك يواصلون التغريبة الحضرميةالتي لاتنتهي ، ولم يكن حظهم مثل حظي ليروا جدهم الكبير سالم سعيد باشطح ليحكي لهم الحكايات !!