اشياء أخرى ...
      
   ثنائية الشاعر الملحن ....

   محمد عمر بحاح / عصام خليدي 

    يرجع جزء كبير من خلود نصوص شعراء الجيل الأول من شعراء الأغنية اليمنية الحديثةإلى حرية الإبداع ، بالإضافة طبعاإلى الموهبة ، والثقافة ، ومكونات أخرى ، لهذا تعيش حتى اليوم برغم موت أصحابها اومعظمهم .. فلم تمت نصوصهم بموتهم ! في حين ان كثيرا من اعمال الذين ركبوا الموجة ، واستسهلوا الشعر الغنائي ماتت وهم مازالوا على قيد الحياة ! 
 مفارقة ..أليس كذلك ؟ 
  نفهم من هذا ان هناك اسبابا تكمن وراء نجاح الأولين ، وإخفاق الآخرين .
  يحتاج المبدع إلى عدة عناصر تتداخل ، وتنسجم ، وتتناغم مع بعضها ، وتصبح ذات تاثير كبير على إبداعه ، وعلى فكره ، لكي يحقق ذاته وحضوره ، وبالتالي النجاح .
   الأول : الموهبة ؛ فبدون موهبة حقيقية لايمكن تحقيق الشرط الرئيس في اي إبداع .لكن الموهبة وحدها لاتكفي مالم ترافقها عزيمة اكيدة من صاحبها ، وبدون إستكمال بقية الشروط او المكونات التي تسيجها بسياج يحميها من الإندثار . 
  الثاني : الثقافة والتواصل مع المعرفة - فالموهبة وحدها بدون ثقافة مصيرها الإضمحلال والزوال. والقراءة هي الاتجاه الصحيح لتعميق المعرفة ، وإثراء الذات ، ومواكبة كل ماهو جديد سواء في المجال الذي يهتم به المبدع ، اوفي المجالات الأخرى العلمية والثقافية .
 الثالث : العناية بمجال إختصاص المبدع ، ومالم يمنح فنه مايستحقه من اهمية ، ويشتغل عليه ، ويمنحه اقصى إهتمامه ، ويتتبع كل جديد فيه ، والحرص علىإتقان دقائق واسرار صنعته فلن يحقق التفوق والإرتقاء الذي يطمح إليه.
 الرابع : التفاعل مع التجارب الأخرى ، وعدم الإنغلاق على الذات اوتجربته وحده ، لأن المعرفة كماهومعروف اخذ وعطاء ، وهذا يتطلب منه ان يكون متعدد الثقافات وان يستوعب كل تجربة يمكن ان تضيف تراكما إلى منجزه الأدبي اوالفني .
  الخامس : ان المبدع معني بالواقع الذي يعيش فيه ، فاندماجه في الحياة العامة ومجرياتها وحوادثهاالسياسيةوالاجتماعية
 والحياة الثقافية بشكل عام ، هو الذي سيغني تجربته الحياتية والإبداعية ، ويعصمه من العيش في برج عاجي ، فالمبدع ليس معنيا بذاته وتجربته الإنسانية وحدها ، بل بالناس وبالخوض في مشكلاتهم ، وهنا تكون له رسالة ويسهم في حركة المجتمع وحركة التطور .
 السادس : الحرية ؛ يحتاج الإبداع والخلق الفني إلى جو من الحرية ، وإلى مناخ يساعده على النماء والتعبير وخوض اعمق التجارب ، فالقيود مهما كانت لايمكن ان تكون حاجزا بين المبدع وحرية نصه الذي يشاء ، المهم بالنسبة للمبدع الايحبس نفسه وإبداعه ومن ثم نصه ، بالعزلة فتفقد حرية الإبداع معناها وجدواها لديه. وإذ ذاك يموت النص حتى قبل موت منتجه .
  ونعتقد ان هذه الشروط ، اوجلها كانت متوفرة إلى هذا الحد اوذاك في أولئك الجيل من شعراء الأغنية اليمنية الحديثة ، اوعلى الأقل في عدد منهم ممن غادروا هذه الحياة إلى الحياة الأخرى ، لكن نصوصهم واعمالهم تعيش بيننا لم يدركها الخراب .
  كان ذلك الجيل يولي إهتماما بنصه الشعري الغنائي ، من حيث بنيته ، ومن حيث تركيبه اللفظي ، وموضوعه ، وانفتاحه على محيطه الخارجي ، وعلاقة المتلقي به ، وكذلك الإهتمام بالصور والمنلوج الداخلي في اطار إهتمامه بالمضمون الكلي لقصيدته الغنائية .
  وكان الشاعر من هؤلاء حريصا على ثقافته واكتساب المزيد منها من خلال القراءة والإطلاع ، لشعوره ان لاغنى له عنها ، وان حاجته إليها كحاجته إلى الماء والهواء ، وان تطوره كشاعر مرهون بتطور ثقافته ولغته وتجربته.
 كان الشاعر الغنائي فيما مضى ..قبل ان يدلف الساحةالغنائية انصاف الموهوبين - انموذجا للشاعر المثقف الذي يتماهى مع نصه باعتباره جزء من ذاته ، ومن تجربته الشعرية والحياتية ، وكان هؤلاء الشعراء اصحاب مشاريع شعرية وفنية لامجرد شعراء غنائيين .
  ونعتقد ان تنوع الأبعاد، وامتلاء اشعارهم بالصور ، وبالمضامين الإنسانية ، والغنائية التي ميزتها ، بالإضافة إلى عناصر اخرى توفرت فيها هي مامكن الملحنين الذين تصدوا لتلحينها لأن ينقلوها من نطاق الحروف ، الكلمات ، الجمل والتعابير اللفظية إلى مقام الموسيقى ، والالحان البديعة المتنامية والمتصاعدة والمشتعلة التي سمت بها إلى آفاق ضمنت لها النجاح او الشهرة والبقاء حية حتى اليوم .
 وإذا كان الحب بمافيه من وجد ، وشوق ، وهجر ، وحنين ولوعة ، مازال القاسم الأكبر المشترك في الغناء العاطفي ، فان شعراء الأغنية اليمنية الحديثة اولوا إهتمامهم إلى جانب ذلك بالبيئة. 
 وسنجد ان الكتابة الشعرية لعدد من الشعراء في عدن على سبيل المثال نهضت علىذاكرة مستفيضة بحب البحر ، وعكست علاقة الحب التي تستوطن قلوب اهلها العاشقين لهذا الأزرق الشاسع ، ونجد ان عددا من النصوص الشعرية الغنائية لهؤلاء الشعراء وخاصة الشاعر الراحل لطفي جعفر امان ، واحمد الجابري ، تنهض على لغة شعرية تعبر في مفرداتها وصورها عن جملة العواطف التي يشعرون بها تجاه هذا الكائن الأسطوري بموازاة الحبيب .
  فنرى لطفي امان في اغنيته ( صدفة ) وهي من بين ابدع مالحن له الفنان  الموسيقار الراحل احمد بن احمد قاسم يستحضر البحر كشخصية اساسية في القصة الشعرية التي تجري في اجوائه علاقة الحب اوالعشق من البداية حتى النهاية ، فاللقاء تم بين العاشقين صدفة على الساحل ، او شاطيء البحر بدون موعد ، وبدون وجود احد من البشر ، سوى صوت الموج وتنهداته .
 " صدفة التقينا على الساحل ولافي حد 
    صدفة بلاميعاد 
    جمع الهوى قلبين 
  سمعت ابين على الأمواج تتنهد 
     لما حواك الفؤاد 
   والعين تناجي العين 
والبحر والرمل والبدر الحبيب يشهد 
   على الهوى والوداد 
   مابيننا الاثنين " 
  ان هذا اللقاء" الصدفوي " على شاطيء البحر ( ساحل ابين ) بكل ماتثيره اجواؤه الساحرة من روعة وبهجة ، وتشيعه من سحر يبعث في قلب الشاعرحبا جامحا يملك عليه مجامع قلبه إلى حد إحتواء الحبيب بفؤاده .
  ولاشك إن تلك الأجواء الإستثنائية كان لها دور في كل ماحدث لهما بعد لقاء الصدفة هذا ، الذي تحول إلى هوى يجمع قلبين ، وإلى عين تناجي العين ، وإلى فؤاد يحتوي الحبيب . 
  ولاتكمن قيمة النص بطقوس الحب التي اقامها الشاعر لمحبوبه الذي التقاه صدفة ، بل باللغة الشاعرة التي يجترحها الشاعر التي تذهب على ذلك النحو او ذاك في الرومانس ، والتي تقدس مفردات البحر وعناصره من موج ورمل وبدر على الهوى والوداد بين العاشقين / الاثنين .
 ونجد الشاعر يعطي اهمية غير إعتيادية في نصه للبحر الذي اتخذه مكانالقصة حبه بقدر إهتمامه بالحبيب ، واحتفائه باللحظة التي يعيشانها ، بل إن كل لحظة من تلك اللحظات تدفعه لإقامة طقوسه اللغوية المشخصة للبحر المعشوق الموازي للمحبوب ، فيسمع ابين على الأمواج تتنهد ، والبحر والرمل والبدر الحبيب يشهد ، على تلك اللحظات من الهوى والوداد بينه وبين حبيبه .
  وعلى هذا الاساس من القيمتين الراقيتين سوف تنهض اغنية الشاعر مضمخة برائحة البحر وبعناصره الزاخرة بكل ماهو شاعري .
 فالمكان هنا ينهض كنص مواز اومرادف تدور في أجوائه اوفيه العلاقة الحميمة التي نشأت بين كأنين التقيا صدفة على الساحل ، لكنهما سرعان ماتحولا إلى عاشقين ، فالبحر يواظب على حضوره طوال النص / الأغنية كشخصية محورية من شخصيات الحدث ، بل كشخصية اسطورية يستوعب كل تجليات قصة الحب الدائرة فيه ، بل انه سيضفي بحضوره الجمالي وسحره الخالد روعة على حالة الحب والتوحد الجسدي والروحي بين هذين العاشقين .
 وسيضيف الليل والبدر وصوت الأمواج المتنهدة على الشاطىء والرمل والأصداف والمحار وكل الكائنات التي تتدفق من البحر إلى الساحل إحساسا هائلا إلى حالة العشق هذه وحالة توحد العاشقين ، بكل توحدهما مع تلك الكائنات .
  وحتى إن لم يذكر الشاعر كل تلك المفردات او الكائنات البحرية في نصه الشعري فان المتلقي - المستمع المستوعب يستطيع ان يدرك حالة التزاوج المعنوي والدلالي بين اطراف هذه المعادلة : البحر وكائناته من موج ورمل وبدر ، وبينها وبين العاشقين ، رائيا اوملاحظا تجليات اللحظة الإبداعية والخيال الخلاق .
  ولايكفي ان يكون البحر أوساحله مجرد مكان شهد لقاء الصدفة ، ثم اللحظات الحميمية التالية بين العاشقين ، بل ان الشاعر يظهر هذه العلاقة ، ويصاعد سحر البيان ، فيجعلها اكثر إرتباطا وأوثق إلى درجة انه لايتخذ من البحر ضرورة جمالية بل يجعله يتسع لالعلاقة حبهما وحدهما فقط ، بل وايضا لعلاقة كل العشاق الذين سبقوهما ، والذين سياتون بعدهما .
 لقد جعل الشاعر البحر معبدا للعشاق ، محرابا يأوون إليه ليغسلهم بنشيده العذب كلما استبد بهم الشوق ، اوجرفهم الحنين إلى الرملة ، والحب هو الذي يمنح الفتى العاشق كل تلك الشجاعة لكي لايخاف المد ويقدم على مغامرة الصيد .
  إن البحر ليس حضورا جماليا فقط في النص ، يزيد من لحظة الحب بهجة وشاعرية ، بل ان له لحظات غضب ، والشاعر مستوعب لذلك ، لكن الموعظة هنا لاتنفع بالنسبة لفتى عاشق يشده الحب والحنين إلى محبوبته او إلى معشوقه ، فالحب اعمى كما يقال ، وهو لن يتوانى عن التضحية بنفسه حتى لو أدى ذلك إلى موته غرقا في البحر عندما يحتضنه ويودعه حبه الأبدي طالما انه  سيفوز بليلة من ليالي العمر مع حبيبه .
  
 "  ياساحل ابين بنى العشاق فيك معبد 
         كم فتى يعشق 
         ويحن للرملة 
     اللي يصيد الهوى فيك مايخاف المد 
        حتى ولو يغرق
        يكفيه فيك ليلة
             لك يد
             تمتد
      من فوق المطلع 
             ويد 
     في صيرة تترقرق 
     تسكب هواك كله " 
*****
    ابدع الموسيقار الخالد احمد قاسم في صياغاته اللحنية وقوالبه الموسيقية لأغنية ( صدفة التقينا ) ، فقدم لنا شريطا سينمائيا موسيقيا بصور ، وجمل لحنية ، عبرت في معانيها ودلالاتها عن مشاهد ، ومواقف رصدت لحظات زمنية مهمة وضعها بن قاسم في سياقه اللحني النغمي ، ووفق فيه كل التوفيق في تجسيد اللقاء الذي تم بينه وبين محبوبه المعشوق وساحل ابين ، بالاضافة إلى ماتضمنه النص الغنائي للشاعر الكبير لطفي امان ( رحمه الله ) .
 بل والأهم من ذلك ان احمد قاسم تمكن بموهبته وملكاته الاستثنائية الموسيقية ، ان يضيف للنص المكتوب ، رؤى وابعادا جديدة ، حملت في طياتها ادق الجزئيات والتفاصيل التي عبر من خلالهاعن قدرته في ترجمة مفردات ومعاني النص الغنائي ، بلغة موسيقية إبداعية، غنائية، استخدم فيها قاموسه الفني الفاخر الراقي المترف ، باشتغالات جادة واعية ، طورت اسلوب ومستوى الغناء اليمني الحديث .
 لم يترك النوسيقار احمد قاسم في لوحته التصويرية الإستعراضية الموسيقية في اغنية ( صدفة التقينا ) كلمة واحدة في سياق النص الغنائي إلاوعبر عنها بلغة موسيقية ضافية جمعت بين احاسيسه ، وخلجاته ، ونبراته التي امتزجت وانهمرت مع معشوقته التي قابلها بالصدفة على ساحل ابين ، وما إلى ذلك من وصف عبر عن تنهدات الساحل / المعبد _ ابين في هذه المقاطع : ( صدفة التقينا على الساحل ولافي حد صدفة بلاميعاد / جمع الهوى قلبين / سمعت ابين على الأمواج تتنهد / لماحواك الفؤاد / والعين تناجي  العين / والبحر والرمل والبدر الحبيب يشهد / على الهوى والوداد / مابيننا الاثنين ) .
 كماوفق بن قاسم في التعبير بصوته في هذه الابيات : ( الله من ذي العيون / من ذي الشفاه والنهد ) ليرتفع صوته بشموخ يشهد من خلاله الكون باسره بقدسية المكان والزمان اللذين شهدا اللقاء العظيم بينه وبين معشوقه ، ومدى مااثار في نفسه واحاسيسه ، ذلك المكان الذي اصبح ملاذا لكل عاشق : (ياساحل ابين بنى العشاق فيك معبد / كم من فتى يعشق ويحن للرملة / اللي يصيد الهوى فيك مايخاف المد ).
   ولكم اطربنا ، وشنف آذاننا ، واسعدنا الموسيقار احمد قاسم بتلحينه لهذه الأبيات الرائعة ، وبقدرته على ترجمة لفظ الجلالة ( الله ) عندما يقوله بصوته الجهوري العذب الممتلىء شحنات عاطفية  اختزنت بين ثناياها خلجات ولواعج عاطفية مرهفة عميقة الاثر وجدانيا وإنسانيا ، وقد لحن احمد قاسم هذه الأغنية الرائعة على مقام (البيات على درجة الدوكا ) وينتقل في الكوبليه على نفس المقام ( البيات - الجواب ) .
  *****
(يتبع ...)