التسامُح الديني والتعايش السِّـلمي في عــَـدَن ..

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل 125) ..

في بداية الستينات، وحال تخرَّجي من الدراسة عمِلتُ مُوظفا في فرع "شركة لـُوك ثوماس البريطانية" في مدينة المعلا، وبعد فترة قصيرة إنتقلنا إلى المكتب الرئيسي في مدينة التواهي .. 

وُفـِّـقت بعدها في توفير مبلغ يؤهلني للزواج في أواسط سبعينات القرن الماضي، فأستأجرت شُقة في عمارة التاجـِر الحضرمي العدني، "بادحمان"، بشارع الملك سليمان، المُحاذي لِملعب الحبيشي بكريتر عــَـدَن. سُمي هذا الشارع في الماضي بشارع التـُمباك، وأيضا حارة اليهود ..

تقع شقتي في الدور الثاني من تلك العمارة، وفي الدور الثالث تسكن عائلة هـُندوسية مكونة من زوج إسمه "هيسموك"، وهو مُهندس كهربائي يعمل في شركة المصافي البريطانية في البريقة، وزوجته "بـانو"ربة بيت، وإبنتهم الوحيدة "نيللو" التي كانت في السابعة من عمرها آنذاك ..

نشأت صداقة متينة بين العائلتين. فالسيدة "بانو" تـَفتـَخر بطباختها المُكونة من النبات فقط، كونهم لايأكلون اللحوم لأنها محرمة في مُعقداتهم الهندوسية، فمثلا عندما تعمل "بانو" طبخة جديدة ترسل لنا جزءا منها، ولأن كل جديد مرغوب، نقعد نأكلها بشراهة ..

في المقابل عندما تطبخ والدتي أرز بالعدس والبهارات، أو مكرونة بالجبن والصلصة، أو عـَطـْرية بالسُكـَّر، أو هـَلـْوى بالزبيب واللوز، وغيرها، تـُرسل لهم جزء من هذه الأطباق بدون اللحم أو السمك أو البيض، فتـُعجـَب بها "بانو" وزوجها، وتسأل والدتي عن الخـَلطة السِّرية لهذا النوع أو ذاك من الأطباق التي ترسلها لهم ..

الجارة "بانو" الهـُندوسية تـُجيد الحديث باللهجة العدنية الدارجة إلى حدٍ كبير، وحين تنزل إلى شُقتنا في المساء غالبا، تتسامر مع والدتي وزوجتي وأختي ويتبادَلنَ الخبرات في الطباخة وشئون البيت وأمور الحياة، فنشأت بينهُن علاقة وطيدة إحترمت كل واحدة مِنهن أفكار الآخرى ومعتقداتها وتقاليدها، عملا بقوله تعالى: "أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" ..
 
زوجها "هيسموك" هو أيضا يجيد الحديث باللهجة العدنية إلى حد كبير. فعندما يحضر إلى شقته بعضا من زملائه من الهندوس والعرب والهنود المُسلمين في المساء، يدعوني هو لنلعب الشطرنج أو الدومينو. وإذا رآني بحاجة لِسيارته لقضاء بعض أموري العائلية، لايتوانى في إعارةِ السيارة لي، بعد أن بعت أنا سيارتي لغرض تأثيت شقتي ومواجهة ترتيبات زواجي، لأن هذان الأمران إسْتنزَفَا كل مُدَّخَراتي ..

في شهر رمضان يحترم "هيسموك" وزوجته وإبنتهم طقوسنا الدينية، فلا يأكلون أمامنا في النهار، وفي أعيادنا الدينية، تنزل تلك العائلة إلى شقتنا لتـُبارك لنا أعيادنا، وفي مواسم أعيادِهم يأخدوننا معهم لحضور حفلاتهم التي يقيمونها في نواديهـِم الخاصة في شارع "حسن علي" المجاور لشارعنا ..

سَكن في نفس العمارة، جارٌ يمني لنا، هو "أحمد ذيبان"، يملك مَكتبا للخدمات التجارية، في العمارة المقابلة لعمارتنا. وفي بعض أيام الأسبوع نذهب أنا و"هيسموك" وبعض جيراننا الآخرين إلى مكتب جارنا الذيبان نتجاذب الحديث في شئون الحياة والبلاد ..

في أحد الأيام، داهم المرض جارنا "أحمد ذيبان" وأُبقـِيَ في المستشفي لفترة بسيطة، فحرص "هيسموك" خلالها على أن لايـُـفوِّت فرصة لزيارته، برفقتي أحيانا، وبرفقة بعض الزملاء من الجيران أحيانا أخرى .. 

 تأزَّمَت وأستاءت الحالة الإقتصادية والإستثمارية في عــَـدَن في بداية سبعينات القِرن الماضي، نتيجة إغلاق قناة السويس إثر العدوان الإسرائيلي الصهيوني/الإستعماري الغربي الغاشِم على الدول العربية (مصر وسوريا والأردن) عام 1967م، وقَرَّر بَعض من أبناء الجاليات الأجنبية (هندوس، وهنود مسلمين، وصومال، وفرس وغيرهم) مِمن يعملون ويعيشون في عدن، قرَّروا مُغادرة عــَـدَن إلى دولٍ أخرى في أوروبا، وأمريكا، والشرق الأوسط بحثا عن حياةٍ معيشيةٍ أفضل. ومن بين من قرَّرَ المُغادرة، أحد جيراننا من الهُنود المُسلمين يُدْعَى "محمد بارِك"، الذي عمِل مع نَسِيبي "أبوبكر زيدان" في السفارة البريطانية بمدينة خور مكسر بـ عـَـدَن في تلك الفترة. .

وفي يوم سفرِ "بارِك" وعائلتِه، قرر "هيسموك" مرافقتنا إلى المطار لِيُشارك في وداع بارِك وعائلته، وكان وِداعا عاطفيا مُهيبا أدْمَعَت فيه عُيون عائلة "بارِك" وعيوننا جَميعا ..

على إثرةِ أيضا، وفي منتصف عام 1974م، قرَّرَ"هيسموك" وعائلته مُغادَرَةِ عدن نتيجة توقفِ الإستثمارات وجُزء كبير من النشاط الإنتاجي في مِصفاة عدن. وفي يوم سَفَر تلك العائلة الهندوسية الرائعة، نَزَلت "بانو" وإبنتها تُودِّعان والدتي وزوجتي وأختي وعـُيونهنَّ تَدمُعَان حُزنا وألما على الفراق ..

خلال الوِداع قالت "بانو": كَم يَعِزُّ علينا فُراق هذه المدينة المُسالِمة والبُعدِ عنها وعن مُجتمعها الراقي المُتحضِّر الذي لمِسنا منه مشاعر الوِد والحُب والإخاء. وأضافت، انا على يقين من أن عـَـدَن ستعود كما كانت في يومٍ ما، لأن بيئتها ومُجتمعها مُؤهلان للإزدهار بِسبب طبيعة المدينة وثقافة مجتمعها المتَمَدن والُمُتمَيز ..

رافق "هيسموك" وعائلته الهندوسية جَمْعٌ غفير من سُكان الحارة إلى المطار، والحُزْن والأسى يملأ وجوه الجميع بِما فيهم "هيسموك". وبَقي جميعنا في المطار إلى أن أقلعت طائرة "هيسموك" متوجهة إلى بريطانيا حيث أستقر وعمِل هناك، ولم تنقطع إتصالاتهِ ومراسلاتهِ معنا إلى أن توفي "هيسموك" عام 2010م ..

عاش مجتمع عدن المُتجانِس والمتناغم برغم إختلاف الجنسيات والديانات والمذاهب، عاش حياة يُخيم عليها السِّلم الإجتماعي والتسامُح الديني، والتعايش السلمي، والتناغُمٍ والإنسِجام والإحترام بين كل الأعراق والأديان والمذاهب في تلك الفترة الذهبية من تاريخ هذه المدينة الكوسموبوليتانية، مِثلُما تَعيش مُجتمعات كل المُدن المُتحَضِّرة في عالمنا المعاصر ..