شتاء آخر في القاهرة ..كان المقهى في وسط البلد ، جميلاً وبسيطاوحميميا، ودافئا رغم ان الوقت مساء والليل في أوله، وليل القاهرة طويل طويل . 
  وصلت في التوقيت المتفق عليه مع الصديق منصور الحاج.
 أشعر براحةكبيرة كلما قعدت في " مقهى ريش " ، يغمرني هذا الإحساس، وبأن المقهى لم يندثركما انطفأت عدة مقاه كان يرتادها عبقري الرواية العربية نجيب محفوظ واستمد من اجوائها بعض رواياته وكتب اولى مسوداتها،، ورصد منها عالم الحارة الحقيقي، عندما كانت المقاهي في مصر تمثل حالة ثقافية مثل ميرامار ، وقشتمر ، وزقاق المدق، ومقهى عرابي ، ومقهى علي بابا. مقهى الفيشاوي ربما هو الإستثناءالوحيد الباقي من تلك الكوكبة حتى الآن إلى جانب مقهى ريش طبعا ..
  
                         (2)
غاب عن المشهد نجيب محفوظ وشلة "الحرافيش "الذين كانوا من رواد ريش الدائمين ، رحلوا وبقيت رسومهم ،تملأ الحوائط. احس بأنفاسهم لاتزال تعبق في المقهى، وضحكاتهم ، ونقاشاتهم في الأدب والفن تملأ المكان ،،، الكثيرمنهم قرأت لهم اوشاهدت بعض اعمالهم في السينما والمسرح والمجلات .
  رحلوا ...
 وشغل الطاولات زبائن آخرون، عرب وأجانب يأتون إليه كلماجاءوا إلى مصر يجذبهم صيت صاحب نوبل ، العالمي نجيب محفوظ الذي كان أشهر زبائن ريش في شارع طلعت حرب الذي تأسس سنة1908م ،وكان ملتقى ادباء ومثقفي مصر: نجيب محفوظ، يوسف ادريس، امل دنقل ، نجيب سرور ، يحي الطاهر  عبدالله ، صلاح جاهين، كمال الملاخ وغيرهم .لكن احدا من هؤلاء لم يكن من شلة حرافيش نجيب محفوظ الخاصة التي كانت تضم المخرج توفيق صالح ، والكاتب الروائي ثروت اباظة، ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان ، والكاتب محمد عفيفي ، والفنان التشكيلي توفيق شفيق ،والكاتب عادل الكامل ، والطبيب يحي الرخاوي، والفنان احمد مظهر وهو الذي أطلق الإسم على شلة الحرافيش .        الركن الذي كان يجلس فيه نجيب محفوظ ويلتقي فيه باصدقائه ويعقد فيه ندوته الاسبوعية كل جمعة منذ عام  1963واستمرت لسنوات خالِِ، منذ رحل الأستاذ، كأنهم يشعرون الا أحد يملأ الفراغ الذي تركه غيابه، لكن هناك صورة كبيرة له معلقة تخليدا لذكرى اشهر زبائن ريش والذي ارتبط المقهى باسمه .
  استعيد شخصيات من رواياته كأني أقرأها الآن ...يوما ما كنت مدمنا على قراءته، أزعم انني قرأت كل ما كان في مكتبة اخي محفوظ التي جلبها من عدن ، هو الآخر كان مدمنا لنجيب محفوظ إلى درجة أنه اطلق اسمه على ابنه ، وبعد ذلك اقتنيت بقية رواياته، سهل عليٌ قراءة محفوظ فهم الشخصية المصرية إلى حدما،وتغيرات الطبقة الوسطى في مصر، وتعلمت منه بعض فنونه في الكتابة والقص.لكن ليس كما فهمتها فيما بعد من جمال حمدان عندما تعمقت في قراءة "شخصية مصر :دراسة في عبقرية المكان ".هذا ليس سوى شرود عابر ،إذ سرعان ماعدت منه وانتبهت إلى زميليي على الطاولة منصورالحاج وسلطان الجرادي، وكالعادة كنت منصتا اكثرمني متحدثا، وكان منصورالحاج متدفقا في الحديث، حديثه شائق وممتع، ويملك ذاكرة حديدية ، وقدرة غير عادية على تذكرقراءاته في الفلسفة والفكر، ولكن باعتبارها قابلة للنقد،وإلا تحولت إلى قوالب جامدة ، ويرى أن كل نظرية إذا خلت من الإبداع المستمر، تموت ولا تستحق الحياة او ان نحفل بها. ونفس القدرةعلى سرد الأحداث التي عاشها، وفي الكثير منها كان في اتون الأخطار وفي احداها قريبا من الموت الذي نجا منه بأعجوبة..فقط لوكان يكتب ذكرياته، لكان ساردا عظيما ! وهو شاعر ايضا ولو انه مقل وضنين بنشر حتى هذا القليل .
    في تلك الليلة وقبلها كنت منشغلا بالكتابة عن مدن البحر ... كتبت بضع أسطر عن شرمة (موضوع الحلقة) قبل ان يفاجئني منصور الحاج بهاتفه يدعوني للقاء في مقهى ريش ، ويلح علي بالحضور لأن الصديق سلطان الجرادي سيكون موجودا...
                      (3)
  عندما عدت إلى شقتي اكملت مابدأت كتابته عن شرمة، وارسلته إلى الأستاذة ضياء سروري رئيس تحرير ( صوت عدن )،ومنه إلى الأصدقاء في مختلف القارات الذين يتابعون مدن البحر وكتاباتي المتواضعة منذ سنوات ، وهذه إحدى ميزات ثورة الاتصالات العابرة للقارات .. وكان من بين من ارسلت الحلقة لهم الصديق الدكتور سلطان الجرادي رفيق سهرتنا تلك الليلة في ريش ..وكان قد عاد إلى صنعاء قبلها بأيام .
ومن هناك كتب لي :"مساء الخير. أنا زرت شرمة والديس الشرقية قبل عام 2000م، عندما كنا نؤسس منطقة محمية للسلاحف التي يتم إصطيادها   بحيث أصبحت مهددة بالانقراض. وكان لي شرف إعداد الدراسات القانونية واللوائح وقانون إنشاء المحمية". هذه المرة الأولى التي اعرف دور الدكتور سلطان القانوني في تأسيس (شرمة محمية طبيعية) التي أٌعلن عنها في عام2001م،ورغم انني والدكتور سلطان التقينا كثيرا لكنه ابدا لم يشر إلى دوره ذاك ، هذه بعض مزايا الطيبين الذين يعملون بصمت ولايشيرون إلى ادوارهم تلك إلاٌصدفة .
  قلت له :
  - ان نسيوا فشرمة لاتنسى ، ومع ذلك مازالوا يقتلون السلاحف !!
    فرد بحزن ومرارة احسستهما في كلماته القليلة :
- أعرف ذلك وهذا شيء مؤسف وخاصة لأن هذا النوع من السلاحف نادر ويوجد في أماكن قليلة جدا حول العالم، لكن في الأماكن الأخرى يحافظون عليها وليس مثلما يفعل جماعتنا...!!
 كدت اقول له،أن بلادنا تذبح نفسها منذ سنوات وتعيش مع الموت ، والناس فيها يقتلون لأتفه سبب ، فلماذا يكترثون لذبح بضع سلاحف ؟!....لكني احجمت عن ذلك في آخر لحظة خشية أن ازود حزنه أحزانا لاتطاق .. 
                    (4)
  نفس المرارة احسستها في كلمات   الباحث طاهر ناصر المشطي ، في ثنايا موضوعه عن شرمة، مشيرا إلى الذبح الوحشي الذي تتعرض له السلاحف الخضراء النادرة في شرمة برغم إعلانها محمية طبيعية منذ قرابة ربع قرن :   
" المحمية تتعرض للعبث بين الحين والآخر وخاصة الذبح الجائر للسلاحف النادرة الأمر الذي يتطلب من الدولة القيام بواجبها لحماية هذه الثروة القومية والإنسانية، وكذا على مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في جمعيات البيئة والآثار أن تقوم بواجبها لحماية البيئة والآثار، والترويج السياحي للموقع" .
                       (5)
 سحرتني شرمة ، سحرني بحرها الذي يعد من اجمل بحار العالم ، تنوعها البيئي، سلاحفها النادرة ، النوارس، أسماكها الملونة ، عالمها من الشعب المرجانية ،شواطئها الرملية الناعمة ، اجواؤها الشاعرية التي توحي بالروحانية والإلهام ..كلما رأيتها او حتى جالت في خاطري ، اقول لنفسي : كيف لااحب هذه الفاتنة الساحرة ولايعجب بها كل من يراها ؟...  
وهاهو الباحث الأستاذ طاهر المشطي يعيد تشكيل شرمة في مقالته اوبحثه الذي حمل عنوان : (شرمة منتجع حضرموت السياحي ومحمية لنظام حيوي فريد ونافذة المشقاص التاريخية على المحيط الهندي) إذ كتب مايلي :
 "تشتهر منطقة شرمة وجثمون عالمياً بأنها آخر المواقع العالمية المهمة لتعشيش السلاحف البحرية، وقد بينت بعض الدراسات إن السلاحف البحرية قد تناقص عددها في كثير من بقاع العالم إلى أن وصل إلى درجة قريبة من الانقراض كما هو الحال في السلاحف الخضر اء وسلاحف منقار النسر ، ويعتبر شاطئ رأس شرمة تحديداً من أكثر مناطق التعشيش أهمية للسلاحف الخضراء في المنطقة العربية، وهو واحد من أحسن الشواطئ المتبقية في العالم، ويعتبر من أهم المواطن لحضانة بيوض السلاحف الخضراء في الوطن العربي . وقد أكدت الدراسات وجود عدة أنواع من السلاحف وأهمها: السلاحف الخضراء (Green turtle). [17]والسلحفاة منقارية الصقر (Hawksbill) وهي من الأنواع المهددة بالانقراض .وكان لعامل البيئة الطبيعية لمنطقة شرمة الدور الأساس في تعشيش السلاحف وارتيادها وخاصة وجود الشواطئ الرملية الناعمة، وهناك أنواعاً منها مهددة بالانقراض منها السلاحف الخضراء (Green turtle) ومنقارية الصقر .

اعتمدت الحكومة اليمنية منطقة شرمة جثمون كمحمية طبيعية في العام 2001م ، وفي العام2002م أضافتها
 اليونسكو إلى مواقع التراث العالمي المؤقتة في اليمن. إلا أنها لم تنل أي حظ من التصنيف والدراسة وهو الأمر الذي جعلها غائبة في الترويج لمحتوى التنوع الاحيائي الذي تزدخر به المحمية
 ● تمتاز المحمية بمميزات بيولوجية متعددة حيث أن منطقة رأس شرمة من أهم المناطق لتعشيش السلاحف الخضراء (Chelonia mydas)  والسلاحف صقرية المنقار (Eretmochelys Imbricat) التي تعد من الكائنات النادرة المعرضة للانقراض والتي تم إدراجها في قوائم الاتفاقية الدولية “CLTES” رقم "1” التي تنظم عمليات الإتجار بالأنواع والكائنات المهددة بالانقراض والحد من الاصطياد العشوائي حيث تلعب بلادنا دوراً مهماً في الحفاظ عليها وحمايتها من خلال إدارة هذه المنطقة. وهناك أنواع أخرى تأتي وتذهب وتتكاثر ولكن بأعداد قليلة.
كما إن شرمة تعد مصدراً هاماً للصيادين والمجتمع المحلي فهي توفر الأسماك للاستهلاك المحلي والتجاري من خلال الصيد التقليدي بالإضافة إلى أن سواحلها تمتلك مقومات السياحة البيئية من خلال المناظرالطبيعيةالخلابة
والموارد البحرية.
                       (5)
 ومن ثم يتحدث الباحث المشطي عن
 التنوع الحيوي (البيولوجي) في محمية شرمة قائلا :
ونعني به تباين الكائنات العضوية الحية البرية والمائية والجوية، والذي يتضمن التنوع داخل الأنواع وبين الأنواع والنظم الأيكولوجية، والتنوع الحيوي البحري يقصد به التباين في الحياة
البحرية بجميع أشكالها الحيوانية والنباتية ومستوياتها وتركيباتها حيث يشكل ذلك دعامة أساسية للحياة البشرية .وتتميز منطقة شرمة وماجاورها بتنوع أشكال الحياة فيها حيوانية ونباتية وطيور، براً وبحراً، كما إن لساحل وبحر شرمة خصوصيته في التنوع الحيوي، مما يكسب المنطقة أهمية كبيرة. ويرجع ذلك لظاهرة الانبثاق المبحثي (تقلب المياه من أسفل لأعلى والعكس) Season Upwelling، وهي خاصية بيئية فريدة، وظاهرة معقدة لم يتم  دراستها بشمولية لحد الآن، وتشير البحوث على إنها تحدث خلال شهور الصيف من شهر يوليو إلى أغسطس، عندما تدفع الرياح الموسمية الجنوبية الغربية المياه السطحية في المحيط الهندي باتجاه البحر العربي مسببة حركة مائية تستبدل فيها المياه السطحية بمياه باردة تأتي من الطبقات العميقة من البحر العربي. والمياه الباردة تجلب إلى السطح المغذيات (الفوسفات والنترات) والتي تسبب زيادة كبيرة في الإنتاجية الأولية على طول المنطقة الساحلية، حيث وجد بأن كمية الإنتاجية الأولية خلال الرياح الموسمية أكبر خمس مرات مقارنة بفصل الشتاء وهذه بدورها مهمة للأحياء البحرية (وخاصة الأسماك السطحية) في المنطقة والتي تستفيد منها كثيراً عبر سلسلة غذائية في غاية التعقيد .

           (ولمدن البحر بقية)