من"حجورة "انطلقت في آخرالنهار تقريبا،عرفنا ان جدي عوض سالم عاد من عدن،تبعتهاعدةزغاريدمن عدةبيوت بما فيهامن بيتنا ...
    يلاصق بيت جدي عوض بيتنافي القويرة،ويقع في الركن،يميزه لونه الأبيض الناصع،المطلي بالنورة،ويواجه حصن الدولة،مخفرالشرطة،والساحةالكبيرة ، حيث يجتمع الأهالي في المناسبات والأعياد ويرقصون العدة ، الخابة ، الشبواني ، المرفع ..
  بيوت آل بحاح كلهامتلاصقة تقريبا ، الجدار بالجدار ،اوالسترةبالسترةكمانسمي الحائط في حضرموت،تبدوكتلةواحدة تعيش في حميمية.والبحاحيون يكونون اسرةواحدة تقريبا، ومع "الديسشرقاويين" يشتركون في" جينات "الهجرةوطواف العالم ككل الحضارم،منهم من هاجر إلى شرق افريقيا ، مثل ابي الذي هاجر إلى شمال الصومال،المستعمرةالبريطانية السابقة،وعمي محفوظ عبد الله بحاح الذي كانت هجرته إلىالصومال الفرنسي" جيبوتي " ومنهم من هاجرإلى الكويت بعدطفرة النفط ،وقبل ذلك بقرون وصلوا إلى مصر وبلاد الشام وشمال افريقيا.وستجد في الشبكة العنكبوتية بحاحيين من مصروسورياوالجزائر يسألون عن جذورهم التي هاجر منها اجدادهم ذات زمن بعيد ! وبعضهم كانوا ممن فتح تلك البلاد في الفتوحات الإسلامية . 
  منذآواخر القرن التاسع عشرعلىالأقل غدت عدن محطةهجرة للبحاحيين ، والحضارم حتى قبل ان توصف بسيدة البحار والتجارة وثاني اشهرالموانيء العالمية بعد نيويورك .
   جدي عوض سالم بحاح كان ممن اختارعدن علىمنوال جدي حاج سعيد بحاح الذي كان تاجرامشهورا في عدن ، وإليه يعود فضل تسمية الديس بالشرقية ، لكن تلك قصة اخرى ..
من بعدهماصارت عدن وجهة البحاحيين ، منهم اعمامي محفوظ وعلي بحاح ، ومحمد وعوض صالح بحاح،واخوي فرج ومحفوظ،وابن عمتي خديجة سعيد عبدالله بحاح،واولاد العم علي محمد بحاح وعبد الله سعيد بحاح،وغيرهم وإن كان الأخيران نقلا هجرتهما بعدذلك إلى  الكويت،وتبعهما اخي محفوظ ..تختلف مواطن هجرتهم وتتفق لكن في الأخير يلتقون في الديس اجيالا وراء اجيال ! 
  على عكس الذين اشتغلوافي التجارة لدى تجارحضارم مشهورين من ال بازرعة وباشنفر وباحكم وغيرهم،اوافتتحوا لهم دكاكين صغيرةخاصةبهم،فان جدي عوض سالم عمل لدىالتاجرالجبلي الذي كان يديراموال الإمامة في عدن من الباطن . 
ذكرت مؤلفة كتاب كنت طبيبة في اليمن  السيدة " كلوديا فايان "التي زارت اليمن سنة 1951م ان اول من استضافها في عدن آل الجبلي عمال الإمام في عدن ! ويبدو انها لم تكن الوحيدة فكاتبة الرحلات "فاريا استارك " تذكر ايضا انها نزلت ضيفة عند آل الجبلي في عدن ، وان مكتبه يقع في كريتر بجانب مكتب التاجر الفرنسي "البس " ، لكن "فاريا استارك "  تكشف عن جزء من طبيعة التجارة التي كان يمارسها الجبلي في عدن ، إذ كان  ينزل من اليمن بسيارة محملة بريالات ماريا تريزا الفضية لشراءمحتاجات الحكومةاليمنيةمن عدن لعدم وجود بنوك في اليمن.والمحاولةالوحيدةلإنشاءبنك في مملكة الإمام باءت بالفشل . 
    وتذكر استارك ان جلالة الملك ، منح ترخيصا لبنك الهندالصينيةالفرنسي لفتح فرع في الحديدة.وكان ذلك يعدفشلا ذريعاللبنك الاهلي الهندي الذي كان يتمتع بنفوذ كبير في عدن . وقد تعرض الفرع  لمكائد ودسائس معقدة اضطرته لإغلاق ابوابه سريعا ! 
   والمعروف ان اليمن كانت تعتمد الريال النمساوي المصنوع من الفضةعملةلها،الذي يعود صكه إلى القرن الثامن عشر الميلادي ويحمل صورة جانبية لوجه الامبراطورة ماريا تاريزا عارية العنق ، وتزن الالف ريال  28كيلوجراما ولايصرف إلافي عدن ، ويتراوح سعره مابين 250 و350 فرنكا وفقا لحجم ومجرى التجارة . وتذكر   " استارك" ان الموظفين الذين يعملون في مملكة الإمام يثقون بالجبلي ولايثقون بالبس ، يرسلون مدخراتهم من الريال النمساوي إلى عدن فيصرفها الجبلي في اقرب فرصة،وفي اقرب فرصةيودعها  البنك الهندي في عدن فتنزل اسعار الفضة في السوق في الأشهر الثلاث التالية .
***
  بقي جدي يعمل لدى الجبلي حتى اخبره كبر السن على انه الوقت المناسب لتركه ، بعد ان افنى عمره يدير اعماله وتجارته بأجر ضئيل وبسكن اسفل واحدة من عمارتيه اللتين بناهما امام ملعب البلدية في كريتر" الشهيد الحبيشي "حاليا لا أقل ولاأكثر !!
  في تلك السنوات،لم يكن هناك عقود عمل بين التجار وموظفيهم تنطم العلاقة بين الطرفين،مالكل منهمامن حقوق وعليه من واجبات . 
 الإتفاق الشفاهي وكلمة شرف كانت تكفي، لم يكونوا يحظون بتأمين صحي اوعلى الحياة اوبمعاش تقاعدي،ومع ذلك لم ينشئوا لهم نقابةعلىغرار نقابات العمال اوموظفي الحكومةوالشركات والبنوك تدافع عن حقوقهم،لم يفكروا حتى بذلك مع ان الكثيركان يوجد منها في عدن !
  افنىجدي عوض سالم عمره في خدمة الجبلي في عدن،قاطنا في تلك الغرفة الصغيرة المخنوقة برائحة الرطوبةودخان " المداعة" و"التمباك" الحمومي،إذ كان جدي مولعا بتدخين الأرجيلة .. 
   كنت ازوره مع أبي في تلك الغرفة  بعض الجمع وفي عيدي الفطر والأضحى  للسلام عليه،فهوكبيرعائلةالبحاح والجميع يكن له التقدير ويجله .
   حين يعود إلىالديس في إجازةمن إجازاته كنااول من يزوره ويسلم عليه ..   في اليوم التالي ولعدة ايام يتوافدرجال الديس على بيته للسلام عليه وتهنئتة بسلامةالوصول.عادة ديسيةوحضرمية يحرصون عليهامع كل عائدكنوع من التوادالاجتماعي بوصفهم اسرة واحدة. وخلال ذلك تدار على الزوار فناجين القهوة المرةوالحلوة، واكواب الشاي، ومرشات ماءالوردومباخر العود" الصندل"  وتعبق الغرفة بالروائح الزكية .
-  آنست ياعم عوض ..
-  وبك الأنس .. 
-  الحمدلله ع سلامة الوصول
 -  الله يسلمك
   يردجدي علىسلام المهنئين .. يتطلع في وجوه ضيوفه ، يعرف اكثرهم خاصة من كانوا في سنه،إن لم يكن كلهم ، ومن كومة رسائل امامه ، يسلم من له رسالة من قريب له في عدن اوحوالة مالية ،او هدايا ..
 في الستينيات من القرن العشرين لم تكن في الديس مكاتب بريد وشركات تحويل عملات كما هو الحال اليوم .المسافر العائد إلىالبلادهوساعي البريدوحامل الحوالات نقودا كانت اوعينية،ولما كانت عودتهم عبر البحريقومون بهذه الخدمة مهما كان وزن المرسول. يعرفون انهم يساهمون في إدخال السعادةإلىقلب اسرةينتظرافرادها بصبر واشتياق سماع اخبارسارة عن رجالهم ، لهذالم يكونوا يترددون القيام بخدمة كهذه سيحتاجون لمثلها ذات يوم غير بعيد ..أماحين لايجدون مسافرا فكانوا  يتسقطون اخبار السفن التي سترسو في ميناء القرن فيرسلونها مع الناخوذة اواحد البحارة . 
   جدي الآن كان يقوم بنفس المهمة على احسن وجه ،يرد على استفسارات من يسأل عن قريب له في عدن ..فلان بخير وارسل معه رسالةوحوالة.. وفلان هدية ، وفلان وعده بان يرسل معه شيئالكنه لم يتمكن ، ربما اعاقه ظرف ما وحتما سيرسلها مع اقرب عائد أوناخوذة . 
   هكذا لعدة ايام ، زوار يدخلون وآخرون يحلون ويسألون عن احوال اولادهم في عدن ..
     يستلم من له رسالة ، حوالة ، هدية ويعود فرحا إلى بيته لإسعاد بقية أسرته  وينصرف من لم يحظ بشيء خالي الوفاض على امل ان يصله مع عائدجديد ، اوناخوذة من نواخذة السفن التي ترسو في القرن .
   أرافق ابي إلى مثل هذه المناسبات ، خاصة إذا كان العائد من الأهل والأقارب .. انظر بانبهار إلىالنور الذي يشع من وجه جدي،اناقة ملابسه ،المعوز الصارون ، القميص ، الكوفية البيضاء المخرمة ، الشال المطرز .. 
   عن نفسه لم يكن يتحدث جدي اوعن عمله مع الجبلي مذ كان هلالا وعاد كالعرجون القديم ! 
  اكثر حديثه يكون عن عدن ،إزدهارها ، اسواقها التي تحوي كل شيء يخطر على البال ، كل شيء .. يصغي إليه الجميع بانتباه وانبهار ويتمنى من لم يرها ان يراها ولولمرة واحدة !
  شاخ جدي وبلغ السن التي لم يعد فيها قادرا على مواصلة العمل .. يقرر انه الوقت المناسب للراحة ، قضاء ماتبقي له من عمرفي بلاده ..عاد بكهولته وثقل  العمروالسنين إلى بلدته الديس ليقضي بقية عمره في بيته العتيق مع اسرته،زوجته وولديه محمد وفطوم ..
 هذه المرة بصفة نهائية ، وليس في إجازة ككل المرات السابقة!