✍️. محمد عمر بحاح / عصام خليدي 

   في اغنية " مش مصدق " للراحل الكبير الشاعر لطفي امان يتجلى مدىإهتمامه، وعنايته الفائقة بنصه البياني ، والجمالي ، والتقني كماسبقت الإشارة .
  يوزع الشاعر نصه الغنائي هذا بين اللهجة العدنية وبين السهل الممتنع من اللغة الفصحى مماصار جزءََ من المتداول اليومي الذي يتكلمه عامة الناس ، بحيث لايحتاجون عندما تورد في نص إبداعي إلى قاموس للإستدلال على معانيها .
  يبدأ الشاعر نصه بالعبارة التالية الاستهلالية الاستغرابية المثيرة للدهشة ، سواء للمخاطب المعني به النص ، اوللمتلقي : " مش مصدق انك انت، انت جنبي " فهذه العبارة الإستغرابية  التي تعبر عن الفرحة التي فاقت الدهشة اعطت للنص طاقة الحركة والرفعة ، ليدخل ويدخلنا معه إلى بقية نصه . 
 قسم لطفي نصه الغنائي البديع إلى اربعة مقاطع تتميزبجماليتها ، وبفنها الرفيع ، ونسيجها الغنائي ، وصياغتها الشعرية المتقنة، تتداخل فيها مجموع مشاعر واحاسيس الشاعرفي حالات فرحه ، وقلقه ، وخوفه ، وعذابه ، وهي مقاطع ضاجة بالحركة ، تتداخل فيهامجموعة
افعال ومخاوف تنسجم وتتناغم مع حالة الشاعر بين حالتى الفرح والسعادة بالحبيب الذي صار بين احضانه ، وبين القلق والخوف الشديدين من ان يتركه فيفقده إلى الأبد .
  يبدا المقطع الأول هكذا مليئابالدهشة والإستغراب : 
 " مش مصدق انك انت ، انت جنبي / انت ياللي كنت خيال ، ضحيت له عمري وحبي / انت ياللي كنت، تأخذ من حياتي كل دقيقة / مش مصدق ، انك انت بين احضاني حقيقة / بل واجمل من حقيقة " 
 وبعد ان تزول عنه الدهشة ، ويتقين من كون الحبيب صار بين احضانه حقيقة وليس خيالا اوحلما، يلتقط اللحظة الواقعية ، ويتمثلها بكل كيانه ، ويصف وجوده إلى جانبه بأنه : " احلى من افراح عيدي / اغلى من دنيا وجودي " واكثر من ذلك يخاطب حبيبه بالقول : " انت معنى من جمال الكون من نوره وسحره / انت زهر / انت عطر. " ، بل انه يعترف بعجزه عن وصفه فلم يعد كافيا كل ماسبق واسبغه عليه من معاني الجمال الكوني ، من نور ،وسحر ، وزهر ، وعطر ، بل يصفه بأنه : " وصف حير الحسن المتيم فيك سحره " ، فيجعل الحبيب في مصاف الأسطوري ، ليرفع من درجته عنده ، ومن درجة شغف المتلقي لبقية النص .
 اما ابيات المقطع الثاني ، فانفتاح نحو النص ، ونحو الحبيب ، بإظهار إنتظاره الطويل له ، واشتياقه إليه ، والحلم به كثيرا ، فهو يهبه دنيا من حبه الكبيركل ليلة ، في جنة متخيلة تسطع فيها الأنوار، وتعبق فيها الأزهار بكل انواعها ، ويحيط بها السحر المثير، ومع كل هذا فإن الحبيبب في غفلة عنه ، ولايدري بان قلب الشاعر اوالعاشق يترك قفصه الصدري كل ليلة ، ويطير إلى حيث يكون : " كنت ادور لك ، واشتق لك ، واحلم بك كثير / كنت اهب لك ، كل ليلة ، دنيا من حبي الكبير / جنة بالأنوار والأزهار والسحر المثير / وانت ماتدري بقلبي ، كيف لاعندك يطير "  في المقطع الثالث، يواصل الشاعر استكمال معانيه التي بدأها في المقطعين الأول والثاني ، فبعد ان ايقين ان الحبيب صار حقيقة بين احضانه ، وانه يعيش هذه اللحظة كان عليه ان يظهر إستحقاقه لها وللحبيب ، هنا يعبر الشاعر عن حالته الوجدانية ، والسيكلوجية، وانفعالاته اللحظوية ، فيستهلها بأسئلة لحبيبه تعبر عن حاله هذه : " كيف اضمك واعشق النار التي بين الضلوع / كيف انثر لك احاسيسي واشواقي دموع / كيف اتعذب بحبك كيف خلتني احبك " .
 وبعد ان زالت لحظة الفرح بعودة الحبيب والدهشة وعدم التصديق، وكذلك حالة الإطناب في وصف جماله الروحي ، وايضا حالة التعبيرعن مدى ماتكبده في سبيله من تضحيات قدمها عن طيب خاطر، وماكابده من اشواق ، وايضا وايضا ماينتابه من انفعالات واحاسيس واشواق ودموع، والخوف الذي لم يبارحه اصلا مبعثها جميعا الخوف من ان يتركه الحبيب : " كنت اقول ياريت تدري بي وتعلم ايش فيبي / كنت اقول لك في وجودك ياحبيبي / ياشذى عمري وطيبي / بس اتوسل اليك لاتخلينا لوحدي / لايغرك كل هذا الحب وتتنكر لودي ".
  في المقطع الرابع والاخير ، لايتخلى الشاعر عن مخاوفه التي اجتاحته ، والتي كشف عنها في المقطع السابق ، فيواصلها بصورة اكثر وضوحامن ذي قبل :" كنت اخاف من خوف ظني / كنت اخاف لو رحت مني / ايش باينفعني اترجاك واتوسل إليك / او اقل لك زي غيري مش حرام مش عيب عليك " ، فالشاعر الواعي سواء من تجربته اومن تجربة سواه بأن حالة الهجر والصد هي التي تصاحب الحب اكثرمن الوصال والسعادةالدائمة، تجتاحه حالة الخوف هذه من فقد حبيبه حتى وهو بين احضانه . وقد اجتاحه ذلك من قبل ، ويخشى الآن ان تتكرر التجربة من جديد ..
 وفي ذروة خوفه ، وقلقه من ان يتركه الحبيب ويهجره فيتداعي حبه الكبير ، فانه يرفع من سقف تضحياته ، فلم يعد كافيا بالنسبة له تضحياته السابقة التي قدمها للحبيب من حب ، وعمر ، وعذاب تحمله في سبيله ، بل انه هذه المرة يعرض عليه اخذ حياته كلها في مقابل ان يبقى معه : " ياحبيبي خذ حياتي كلها في راحتيك / واحتضني لاتدعني فأنا منك وانت مني / انت جنة ، انت دنيا ، انت وحدك حاجة ثانية ".
  وهذا العرض اوالعطاء والتضحية بالنفس قمة العطاء وقمة التضحية التي يمكن ان يقدمها حبيب لحبيبه ُ والذروة التي يختارها الشاعر لإنهاء نصه الغنائي . 
فكيف تعامل الملحن مع هذا النص الذي تألق فيه لطفي امان ، واكمل له سحر بيانه ، وجمال معانيه ، وتقنياته الفنية ؟..
*****
  تتجلى في اغنية " مش مصدق " العبقرية اللحنية للموسيقار الراحل الفنان احمد قاسم في احدى تجلياته المدهشة ، المتكئة على اشتغالاته الواعية ، وبناءته المعمارية اللحنية ، النغمية الموسيقية الفارهة ، المترفة ، بثرائه وخيالاته الخصبة ، وصوره وتعبيراته الموسيقية العميقة ، الدالةعلى جزالةوفذادةموهبته الخارقة المتفردة والمستندة على المنهاج العلمي الأكاديمي ، والمتمردة على كل الاشكال الغنائية الموسيقية النمطية السائدة.
  يبدأ احمد قاسم اللحن بالمقدمة الموسيقية (السائبة الادليب) اي بدون الإيقاع على مقام ( الكرد درجة الدوكاه ) ، ومن ثم ياتي الينا بعزف منفرد على آلة العود، بديع ، مبهر ، متقن على مقام ( البيات ) فيسلم بتقاسيمه على نفس المقام ، وبعد تلك المقدمة الموسيقية المصاحبة للايقاع 4/4 (مصمودي) على مقام (الكرد على درجة الدوكاه ) لحن المذهب الذي يقول فيه : " مش مصدق انك انت جنبي / انت ياللي كنت خيال ضحيت له عمري وحبي / انت ياللي كنت تاخذ من حياتي كل دقيقة / مش مصدق انك انت بين احضاني حقيقة ".
 ويقف في مقطع " احلى من افراح عيدي / اغلى من دنيا وجودي / انت معنى من جمال الكون من نوره وسحره / انت جنة انت دنيا انت وحدك حاجه ثانية "، لينتقل برشاقة الموسيقي المحترف الى مقام (البيات ) وهنا يطوف ويحلق على مقام " البيات على درجة الدوكاه " ليصل إلى ذروة المقام في ابعاده النغمية الموسيقية ، وفي ادائه وصوته القوي فيصل إلى نغمتي ( الفا والصول ) جواب مع مقام ( البيات) إلى مقطع ( انت وحدك حاجة ثانية / حاجة ثانية ) وبالتحديد التي يرتكز بها على نغمة ( سي . بي . مول ) ليعود ويستقر مرة اخرى على مقام (الكرد) الذي ابتدأ به المذهب . 
 وفي الكوبليه، يقدم مقطوعة موسيقية مستقلة عن سابقتها على ايقاع (4 / 4 مسمودي) نفذتها الفرقة الاوكسترالية المصرية بغاية الروعة والجمال ، ليجعلنا نشعر عند سماعنا إليها وكأننا امام نهرجار من النغمات المتدفقة المعبرة عن الشجن ، والحنين ، واللوعة، والاشتياق ، على مقام جديد يسمى ( الهزام على درجة مي ) ويستمر هكذا تدفق النغمات الموسيقية القاسمية إلى ان يتوقف الإيقاع المصاحب للفرقة، فيبدا الموسيقار احمد قاسم بالغناء السائب الذي لايصاحبه إيقاع، ليسلطن في ادائه الساحر الآخاذ على مقام ( الهزام ) في هذه الابيات : ( كنت ادور لك واحلم بك كثير / كنت اهب لك كل ليلة دنيا من حبي الكبير ) . ليفاجئنا بمقطع جديد فيه كثير من الخروج عن التكرار والاعادة فيشدو بهذه الابيات : " جنة بالانوار والازهار والسحر المثير / وانت ماتدري بقلبي كيف لاعندك يطير " لينتقل في هذه الابيات الى مقام آخرجديد ( الحجازعلى درجة الصول ) .
 وهنا يتوقف المستمع منصتا، مبهورا، بقدرة فناننا الكبير الراحل الفائقة على التصوير والتعبير مع التجدد والتلاعب بمهارة واقتدار بالمقامات الموسيقية بطواعية . 
 وإذا ماوقفنا عند كلمة ( يطير) نجد انفسنا لانستمع فقط، بل ننظر ايضا الى تلك العظمة التي صور بها تلك الكلمة من تعبير موسيقي نغمي :" وانت ماتدري بقلبي كيف لاعندك يطير" وكأن قلبه ينتفض من بين ضلوعه ، معلنا تمرده وعصيانه للسير والركض والطيران خلف ووراء من يحبه من شدة لهفته .
 وهذه الطاقة اللحنية الموسيقية اعطت النص المقروء رفعة بصرية عالية (الديالكتيك) لها من طاقة الحركة ( الدينامية ) مايجعلها بمصاف نص بصري سينمائي.. فنحن لانقرا النص الشعري، هنا بتامل وحسب بل نرى ذلك القلب في حال تمرده وعصيانه وطيرانه كانه لم يعد يحتمل ان يظل محبوسا في صدر العاشق ، ولايجد معنى لوجوده وحريته إلا إذا اصبح الى جانب ومع من يحب ويعشق .
 وماأروع الاحاسيس ، والمشاعر المنبعثة من قلب فنان عاشق متيم ، ومحب ، حيث يتواصل غناؤه مع ابيات شاعرنا العظيم لطفي امان : ( كيف اضمك واعشق النار التي بين الضلوع / كيف انثرلك احاسيسي واشواقي دموع ؟ ) هنا يستخدم الفنان احمد قاسم ( الايقاع الشرحي العدني الثقيل 6/ 8) .
 لكن نظرا لصعوبة تنفيذ هذا الإيقاع مع الفرق العربية ، فان الفرقة المصرية الاوكسترالية التي نفذت العمل تقدمه على إيقاع ( الفالس ) عربيا كمااستمعنا إليه في التسجيلات المصرية .
 وفي هذه الابيات لشاعرنا الفذ لطفي امان من نفس الاغنية والتي تقول : ( كيف اتعذب بحبك كيف لوتدري احبك ؟ / كنت اقول ياريت تدري بي وتعلم ايش فيبي ) تتبدى من جديد عبقرية الموسيقار احمد قاسم الذي ينتقل في كل كوبليه إلى مقام جديد مغاير منسجم. مع ماقبله ، هنا يسلطن على مقام ( البيات على درجة الصول ) بغناء (سالب) .
 وهنا ايضا ، لنا وقفة عند اللازمة الموسيقية التي تاتي بعد الغناء في هذه الابيات : ( كنت اتمنى اقول لك في وجودك " ياحبيبي " فاللازمة الموسيقية الفاصلة بين كلمة (ياحبيبي) و( يامنى عمري وطيبي ) فيها إشتغال موسيقي حديث ، مبتكر ، وجديد في الغناء اليمني عامة ، هومايسمى علميا واكاديميا بمصطلح ( الكريشندو والدميندو) بمعنى من الصعود والارتفاع إلى النزول والانخفاض ، ليعود بعدها الى المقام الأصلي ( الكرد على الدوكا ) بارتكاز على نغمة ( الانتيرل - طبيعي ) ليكمل ماتبقى من المقطع الاخير من رائعة لطفي / قاسم : " مش مصدق " .
  يتبع ...