عبدالله عمر المضي

 "لايمكن نسيان الصديق الذي تعرفت عليه بموسكو"
                                          اغنية روسية

   يناير/ شتاء1981م
   موسكو الجو في الخارج شديد البرودة، ، إلى درجة متدنية تصل إلى -22 تحت الصفر، اما هنا في الداخل فدافئ وحميمي يشعرك بالجو العائلي ،،،،اكثر الموجودين من العرب: من الجزائر والمغرب وتونس ومصر والسودان وسورية ولبنان والعراق وفلسطين واليمن الديمقراطية، مع قلة قادمين من آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، من الهند وافغانستان ولاوس من انجولا والكونجو وتشيلي ونيكاراجوا وبلدان اخرى،،، 
  كنا خليطا من سياسيين ونقابيين ومن منظمات نسوية ومنظمات مجتمعية مختلفة ومن المواطنين العاديين ومن ضمن هؤلاء كتاب وصحافيون وادباءوشعراء،، ومن حركات تحرر وطني،،، قد يتبادر إلى ذهنك ان هناك مؤتمرا او اجتماعا ماجمع كل هؤلاء ،،لكن الأمر ليس كذلك،،، فكل هؤلاء جاءوا للعلاج في القسم الخاص بالأجانب بالمستشفى المركزي بموسكو اكبر مستشفى في الاتحاد السوفيييتى الذي يضم اطباء وطبيبات على درجة عالية من التأهيل والكفاءة والخبرة مع مترجمين ومترجمات بمختلف اللغات،،، وجدت من بينهم طبيبات واطباء كانوا يعملون بمستشفيات عدن والمكلا بحضرموت ، إحداهن مترجمة لاتتحدث الا بلهجة مكلاوية حضرمية صرفة تضطر معها لاستخدام القاموس عندما لا يفهمها المرضى العرب الذين تترجم لهم مع الأطباء،،،،
                 □□□□
كانت الحرب الأهلية في لبنان مستعرة مع إستفزازات اسرائيلية مستمرة وتهديد بأجتياح بيروت وضرب المقاومة الفلسطينية في المخيمات وفي مواقعها المختلفة كما يحدث اليوم في غزة،،،وكلما زاد الوضع تفاقما يصبح الاتصال مع بيروت صعبا خصوصا على اولئك الأخوات اللائي تركن خلفهن اطفالا صغارا، وتأتي اوقات لايعرفن فيها شيئا عنهم، ومنهن زكية خالد التي يبدو عليها التوتر والقلق الشديد حسب درجة التوتر وصعوبة الإتصال،،،، وعندما يحاول أحدنا الأخذ بيدها والتخفيف عنها تقول انها ليست شجاعة كأختها ليلى وانها مجرد ام تريد الاطمئنان على اطفالها،،،،
كان الجو مشحونا بالعواطف الانسانية والشكوى وقلة الحيلة لدرجة الإحباط لدى البعض وهو امر وارد في الحروب،،،،،،
تحولت غرفتنا إلى ملتقى عربي يومي للعب الشطرنج وللمناقشات السياسية بطبيعة الحال ومعروف عن العرب إدمانهم للسياسة وانغماسهم في النقاشات التي لاتنتهي ويبدو والله اعلم ان العرب هم من اخترع هذا النوع من النقاشات،،،،
يبدأ يومنا بتناول الإفطار يقوم بعده الأطباء بجولتهم اليومية على المرضى ، وبعد قليل يكون رفيق سنهور واقفا على الباب وقد لبس ملابس الشتاء طالبا مني الخروج في جولة صباحية وكان يقول باللبناني ( نكزدر شوي او نعمل شي فتله)....رفيق سنهور من قيادات الحركة الوطنية اللبنانيه خرج لتوه من عملية قلب مفتوح في معهد القلب بموسكو ويواصل علاجه في المستشفى وكنت اخشى عليه من الصقيع في الخارج،،،، وقد كان شخصا في غاية اللطافة والبساطة والتواضع مع درجة عالية من الوعي،،، وكان هناك شاب لبناني اسمه ياسين جاء من بيروت مشلولا بسبب الحرب والرصاص الذي اصابه فى عموده الفقري، ومع ذلك كان متفائلا ومشاغبا ودائم الابتسام الأمر الذي ساعده على تحدي الشلل والتغلب عليه في فترة قياسية،،،،
                      □□□□
تعرفت على السياسي العراقي عزيز محمد السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي، وكان معنا بنفس الطابق ولأسباب خارجة عن إرادته كان يعيش خارج العراق في مدينة ليماسول بقبرص، كانت لي معه عدة جلسات ناقشنا فيها امورا غير السياسة، في شئون الثقافة والفن والشعر والمقام العراقي وامورا اخرى ، وقد اعطاني رقم هاتفه وعنوان منزله في ليماسول مع دعوة للزيارة في اي وقت احدده،،،وللأسف لم أتمكن من تلبيتها لظروف خاصة بي. رغم ان ليماسول وقبرص كانتا ضمن مخططاتي السياحية،،،
من الشخصيات الزائرة تشرفت بلقاء الاستاذ خالد محيي الدين زعيم حزب التجمع الوطني الوحدوي التقدمي في مصر واحد قادة ثورة 23 يوليو الذي جاء لزيارة احد المرضى وكان لقاءا عابرا، ،،،،
كنا نتجول في حديقة المستشفى عندما رأينا الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو  قادما باتجاهنا ومعه مترجمة روسية شابة. في البداية ظننتها تتدرب على اللغة العربية فشكلها يوحي انها في سنتها الدراسية الاخيرة او حديثة التخرج وبالمناسبة هذه المرة الثانية لي التقي فيها شاعرا فلسطينيا كبيرا فقد سبق لي ان التقيت الشاعر محمود درويش في اول زيارة له لعدن مطلع السبعينات .
سلم علينا بسيسو. كذلك فعلت مرافقته الروسية وعندما بدأت الكلام تفاجأت من إجادتها للغة العربية إلى درجة اذهلتني وتمنيت لو ان كثيراً من العرب يجيدون لغتهم مثلها،،،،
اصطحبنا الاستاذ معين معه لزيارة رئيس تحرير مجلة لوتوس لكتاب آسيا وافريقياوهو اديب من باكستان مع زميليّ المصري والسوداني وهناك ألتقينا الروائي القرغيزي السوفييتي الشهير جنكيز آيتماتوف الذي ترجمت رواياته للغات عدة بينها العربية وكنت قد قرأت بعضها وشاهدت اخرى على شكل افلام،،، كان الرجل في قمة التواضع في حديثه معنا وعندما اخبرته عن رواياته رد علي بابتسامة فهمت منها انه مسرور ان العرب يقرأون اعماله ايضا،،

[  ] الزول السمح الجميل السوداني عبد الجليل
كان بسيطا وعميقا بذات الوقت من الواضح انه قياديٌ كبيرٌ في المعارضة السودانية وان كان يحاول إخفاء ذلك بتواضعه وبساطته شأن السودانيين ،،،،،دارت بيننا احاديث كثيرة في كل الأمور تقريبا،،،
ذات مرة قال لي حافظوا على عدن حفاظكم على حدقات عيونكم. فهي نقطة الإشعاع المتبقية لنا وملاذنا الأخير فإن مسها ضر سنتفرق اشتاتا ولن تقوم لنا قائمة،، 
في الشأن السوداني كان عبدالجليل يحمل هما كبيرا بعد ان رأى ما رأى من تنامي الفكر المتطرف والحركات المسلحة المنادية بالأنفصال وقد عبر عن كل ذلك بكلمات قليلة ولكن بلهجته السودانية هذه المره،،،، :
شوف يازول،،،نحنا كنا عبيد كويسين قاعدين برانا، ، ،جاء المبشرين الأوروبيين ادخلوا لنا المسيحية. جيتوا انتم جماعة اليمن الجنوبي والشمالي ونشرتوا الإسلام،،،،عارف النتيجة شنو؟  ماعدنا مسلمين كويسين ولا مسيحيين كويسين ولا حتى عبيد كويسين،،،، !!

    (تمت)