الشحر مدينة من مدن البحر التي سرعان ماوقعت في
عشقها ، مدينة تاريخ عريق في الواقع لافي الحلم ، كانت يوما مملكة عظيمة وعاصمة لعدد من الدول والسلطنات .. مدينة حين تمشي في شوارعها لاتذكرك إلابماض عريق ، تدل عليه بعض القصور التي تظهر هنا وهناك ، والاسوار والأبواب،  لكن المدينة وجدت هنا منذ آلاف السنين .. 
  كان نداء الشحر لي ملحا فاستدعتني مرات كثيرة واخذت تعرفني بنفسها على مهل وتحكي لي عن حاضرها ولاتقول إلا القليل عن ماضيها العظيم فلم اجد من هو أكثر تواضعا من هذه الطفلة الجميلة .. بعد فترة اكتشفت ان موقفها ذاك لم يكن انها لاتحفل بماضيها ولكن كان يشغلها الحاضر ! ويقلقها المستقبل !!
 و الشحر  من مدن البحر التي صنعت جزء كبيرا ومهما من احداث التاريخ في حضرموت ، تكون على طريقنا  عندما نكون ذاهبين إلى المكلا ، اوعائدين منها إلى بلدتنا الديس الشرقية . وعندما لم تكن هناك طريق معبدة كانت السيارات تسلك السيف  وال"لاند روفر" الذي نركبه من الشحر إلى المكلا او العكس تسلك بنا السيف وقت الجزر ، ورمل الشاطئ  كان بمثابة "اسفلت" زمان....
                               (2)
  والشحر من المدن البحرية التي تعلق بالذاكرة بسرعة ولايمكن ان تنساها ..يشكل البحر لوحة أمامية على امتداد البصر وعلى مدى الساحل لعدة كيلو مترات ، مشكلا منظرا مثيرا من الأزرق المتماوج والمتدرج الألوان من الغامق إلى السماوي الخفيف ..
 وإذا كانت الأحداث تتبخر من الذاكرة فانها تسكن التاريخ وبطون الكتب .. وبحسب المؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف في مؤلفه : "الرفيق النافع على دروب منظومتي با طايع" أن اسم "سعاد وهو اسم آخر للشحر أطلق عليها تحريفاً للكلمة اليونانية (Alasa Emporium) ألاسا التي تعني "السوق" أو "المركز" وهو الإسم الذي أطلقه اليونانيون عليها في خرائطهم بعد أن وفدوا إليها في القرن الثاني الميلادي ، لكن الناس منحوها اسماءا كثيرة ..وددت ان اتذكرها كلها.. لكثرتها لم اتذكر غير هذه: أم اليتامى ، سمعون ، السوق ، الكحيلة ، مدينة آل عاد ، الأحقاف ، وكلها تليق بها كعقد الفضة لكن تحب اسمها الذي عرفت به وتحمله إلى اليوم ،،، وإلى الأبد ..الشحر ....                      
 
                               (3)

 يسمى القصر الذي سكناه في الشحر لعدة ايام حصن بن عياش ..كان ذلك أثناء رحلاتنا المدرسية في اوائل ستينيات القرن العشرين الماضي، وكانت الشحر على رأس المدن التي زرناها وكنت حينها في نهاية المرحلة الإبتدائية،  وكذلك زرناغيل باوزير ونزلنا في " الباغ " الإستراحة الصيفية للسلطان القعيطي .
  لم أكن أعلم ولازملائي من إبتدائيةالديس الشرقية يعلمون ان السلالم التي كنا نصعدها لبلوغ حصن بن عياش يرجع إلى الأمير القعيطي عبدالله بن عمرالذي شيده في 1868- 1888م  عندما كانت الشحر عاصمة السلطنة القعيطية ، في نفس موقع حصن بن عياش الذي يعود إلى اسرة بن عياش اليافعية التي يقع احد بقايا قصورها في نفس الموقع لكنه توفي قبل ان يكتمل وظل اهل الشحر يطلقون عليه نفس اسمه القديم "حصن بن عياش " حتى اليوم .. تبدلت الأزمنة وظل الحصن هو نفسه.. من المستحيل ان تتأمل هذا الحصن ذا الطابع الشرقي الهندي دون ان ينتابك الإحساس بسحر الماضي ، وان تعذر آحاديث عامة اهل الشحر الذين يضفون نوعا من الأساطير والحكايات العجيبة عن بناء الحصن مثل انه بني من الحجارة والنورة الممزوجة بالسكر الأحمر المذاب بالماء ...حتى
 يعطي للنورة التي استخدمت لربط الحجارة قوة وصلابة .. ولا زال الشحريون يتحدثون عن ثلاثة
 عشر دائرة كانت تعمل فيها الخيول والجمال لعجن النورة بسكرها المذاب في الماء ، ومن هذا المزيج اكتسب الحصن صلابته ويقال ان آثارها ماتزال باقية حتى اليوم امام الحصن ...  
  اقيم الحصن على مصطبة مرتفعة عن سطح ساحة السوق يصل ارتفاعها الى 50.3متر يتم الصعود إليه عبر طريق في الجهة الشمالية على هيئة درج وفي هذه الجهة يوجد المدخلان الرئيسيان للحصن المكون من دورين فكان الدور الأول عبارة عن غرف صغيرة ودهاليز واروقة كما توجد سراديب كبيرة تحت الأرض .
                                 (4)
 في فترة من الفترات كان مدرسة إبتدائية،،، ثم تم تأهيل الدور الأول منه ليكون مدرسة ثانوية وافتتح الصف الاول في عام 1966م ،العام قبل الأخير من حكم السلطنة القعيطية. وكان ابن عمتي عبدالله عمر المضي من تلاميذ الدفعة الثانية في العام الذي تلاه،وقضى هناك عامين دراسيين واكمل المرحلة الثانوية في ثانوية المكلا . وله ذكريات عن الفترة التي عاش فيها في حصن بن عياش إذكان مدرسة وسكنا (داخلية) في نفس الوقت،واغلبها يتعلق بالجانب الغربي الجنوبي حيث البئر، والظلام اكبر باعث للخوف ..تلك المنطقة كما يتذكركانت "مظلمة ومخيفة و"زؤبة" خصوصا عند البئر،  تصور وانت تغرف الماء بالغرب وتغتسل عندالمساء...وفجأة تجد نفسك وحيدا فينتابك شعور غريب جدا يصعب حتى شرحه ، تتراى لك اشياء ، وتسمع اصواتا ، وتتحاشى الا تصرخ حتى لايتهمك زملاؤك بالجبن ..."
  اولادا كانوا ، والأولاد في هذا العمر لايلتزمون الحذر :    "كنا نقوم بحركات في منتهى الخطورة للوصول إلى البئر، فبدلا من النزول عبر الدرج والمرور بساحة المدرسة والإتجاه للركن الجنوبي الغربي حيث البئر،، كنا نقفز على الجدران العالية دون ادنى إحتراز اوإحتساب للمخاطرومايمكن ان ينجم عن تصرف كهذا ..،كانت السقطة من هذا النوع ستؤدي بنا للموت،، لكن الله سلم وكان لطيفا بنا فلم يمت احد.. لأن أحدا لم يسقط ..."
    زملاء الرحلة وانا ، كان يحلو لنا اللعب والإختباء ولعب الغميضان بين دهاليز واروقة الحصن ، واحيانا نتمادى فننزل إلى السراديب المخيفة اسفل الحصن لإكتشاف ماذا يوجد هناك فنعيش لحظات من الرعب  وتظهر لنا أشباح لانعرف من شدة خوفنا إذا كانت حقيقية ام من وحي الشعور بالخوف وانسجة الظلام ..
كنا نفكر فقط في اللعب ...
فيما بعد عرفنا ان السراديب كانت مخصصة في  الماضي لتخزين المؤن الغذائية والسلاح لمواجهة وقت الأزمات وأزمنة الحرب ليتمكن المدافعون عن الحصن والمدينة من الصمود في وجه اي حصار  ..وكانت الشحر بحكم موقعها الإستراتيجي ومكانتها السياسية والتجارية عرضة للغزوات من البحر ومن البر ، وقد سورت نفسها بسور يحميها من الغزوات والهجمات، وسدة الشحر من معالم المدينة الباقية التي حافظت عليها .
                                (5)                               
  تعرف "سعاد " انني احبها ، ولا أستطيع العيش بدونها وبدون البحر .. واحيانا نشعر كأننا توأمان لايستطيعان الإفتراق . وكنت اقول مع المحضار "قابليني ياسعاد والبسي ثوب السعادة " فتأخذني إلى البحر، ونضع أقدامنا على مطارح جدنا الحضرمي العظيم وتجعلني استمع إلى قرقرة الموج .. وتطلب مني ان افك شفرة الماء! وعندما اقول لها لا أعرف ! تقول لي كيف تحب البحر ولاتعرف ان تفك شفرتي؟! اقول لها وهل تعرفين انت ؟فتجيب لم أستطع ان اعيش يوما بدون البحر ولهذا اعرف لغة الماء : "هنا نسجت قصتي الشخصية" قالت، واستعادت تاريخا عاشته والبحر.عمره آلاف السنين ، وغمرها حنين مفاجىء إلى زمن كانت فيه سوقا مهما لتجارة البخور والتوابل والصبر والبز، والمصوغات الفضية ، وكانت بوابة حضرموت على المحيط الهندي، ولعبت دورا كبيرا في العصور الوسطى في الشبكات التجارية في المحيط الهندي. اخفيت عنها تاريخي البحري المتواضع ..الولادة الأولى في حيس بجانب ميناء صغير على الشاطىء الإفريقي، ثم رحلاتي الى القرن وشرمة وعدن والمكلا ، ثم روستوف ، و الإسكندرية ، و العقبة، ثم اللاذقية ، ثم روستوك ، ثم بيروت لكن ترتيب هذه الرحلات مازال غير موثوق ! 
                             (6)

 شممت رائحةبخور لاادري اسال من شعرها المتماوج ام من الساحل حيث كنا نفترش الرمل الناعم .. في الحالتين كان ذاك عبق التاريخ الذي ورثته عن "قنا" اكبر موانيء حضرموت الذي كان يعتبر مركز التجارة للبخور القادم من جنوب شبه الجزيرة العربية . كان " ماركو بولو"يرى فيها "مدينة عظيمة "مزودة بميناء رائع له مكانة تاريخية على خليج المحيط الهندي في القرن الثالث عشر." وكان على حق ، "فلا يوجد ميناء آخر يعود إلى العصور الوسطى محتفظاً بكل هذا التراث التاريخي فقد كان ميناء الشحر عاصمة المنطقة فعلاً ونقطة بحرية وموقعا تجاريا لجميع السلع التي كانت تأتي عبر البر والبحر أو تلك التي كانت تصنع أو تنتج (السمك والبخور والعنبر والأقمشة والفضة… الخ). كانت تلك البضائع تصل إلى حضرموت بل وحتى المناطق البعيدة مثل عدن والساحل الافريقي والخليج العربي وجنوب الهند وربما إلى كانتون وهو ما يفسر الشهادة التفصيلية لماركو بولو تلك ..." ( كلير هاردي جيلبير- مدينة الشحر بوابة حضرموت على المحيط الهندي )
                             *****
 نظرت إلى البحر تارة ، وإلى "سعاد" تارة ، هنا كان يدور التاريخ المجيد للمدينة ، وتاريخ الذين حكموا الشحر ، كلهم مروا من هنا : الكنديون ، بادجانة، آل إقبال  ، الرسوليون ، الظاهريون ، الكثيري، بن بريك ،الكسادي، والقعيطي ، وبقيت الشحر ... ...
 
             (ولمدن البحر بقية )