في عمله الروائي الأخير «أساور مأرب» يأخذنا الروائي اليمني الغربي عمران إلى عوالم جديدة، مختلفة عن مجمل ما قدمه في أعماله السابقة، سواء من حيث طريقة السرد أو بنية اللغة أو عمق الإسقاطات على الواقع اليمني. فالكاتب يواصل مشروعه الإبداعي في تفكيك المشهد الإنساني والاجتماعي في اليمن، لكن هذه المرة عبر زاوية سردية مبتكرة تزاوج بين الحاضر والماضي في انسيابية متقنة تثير الدهشة والتأمل.

سردٌ يبدأ من النهاية

يكسر عمران في «أساور مأرب» المألوف السردي، فيبدأ من الحاضر ليعود تدريجيًا إلى الماضي، عاكسًا الترتيب الزمني التقليدي الذي يبدأ عادةً من نقطة البداية. هذا الأسلوب العكسي (أو تقنية الاسترجاع المتتابع) جعل الرواية أقرب إلى رحلة اكتشاف معكوسة، يتطلب من القارئ متابعة يقظة وتركيزًا لفك خيوط الحكاية التي تُروى على طريقة «خطوة إلى الخلف»؛ فيتسرب الماضي في ثنايا الحاضر كما تتسرب الحقيقة من بين طبقات الألم.

حكاية كنز: الأنثى التي تمثل اليمن

تتمحور الرواية حول فتاة تُدعى كنز، تُنقل إلى أحد المستشفيات للعلاج، وهناك تنشأ علاقة إنسانية عميقة بينها وبين الطبيبة الاجنبية H التي تولت رعايتها. يتبادلان ثمانية عشر رسالة، تتقمص فيها كنز هوية «الحالة Y»، بينما تبقى الطبيبة «H» رمزًا للرعاية والتعاطف. من خلال هذه الرسائل، تنفتح أمام القارئ سيرة كنز، المليئة بالوجع والمطاردة والانتهاك، وهي ليست فقط سيرة شخصية، بل صورة رمزية لليمن ذاته.

فكنز التي تعرضت لمحاولات الاغتصاب، وأُجبرت على الزواج والهروب والدعارة، تمثل اليمن الممزق بين سلطات متصارعة ودينٍ مسيّس وجسدٍ منتهك. طفلتها التي أنجبتها، والتي يمكن النظر إليها كرمز لـ«الوحدة»، تولد في وسط الخوف والتيه — كما وُلدت الوحدة اليمنية وسط الانقسامات والدماء .

مثلث الجنس والدين والسلطة

يبني عمران روايته على مثلث مركزي من الثيمات: الجنس، الدين، والسلطة. هذه العناصر الثلاثة تتشابك لتكشف عن بنية الفساد والاستغلال التي تنهش الجسد اليمني. من رجال الدين إلى رجال السلطة إلى تجار الجسد، كلهم يلتقون في دائرة واحدة من التواطؤ، ليصبح الدين غطاءً للرغبة، والسلطة حمايةً للانحراف.

تظهر في النص إشارات فنية دقيقة، مثل وصف «الصديقة التي لم تعد سمينة» و«المرأة الهزيلة»؛ وهي رموز مجازية للجوع والفقر اللذين ينهشان المجتمع اليمني. كما تتجسد اليمن في شخصية أمٍّ فقدت أبناءها في المعارك، أحدهم مع أنصار الله والآخر مع قوات الشرعية — مشهد يلخص تمزق اليمن الواحد إلى أطرافٍ متحاربة، حتى داخل الأسرة الواحدة.

جغرافيا تسكن الرواية

في العادة يأخذنا الغربي عمران في أعماله في رحلاتٍ تمتد من شمال اليمن إلى جنوبه، عابرًا المدن والقرى والجبال والسهول، لكن في «أساور مأرب» يختار وجهة مختلفة؛ إذ ينطلق بنا إلى مأرب، إلى الصحراء وبواديها الواسعة، ليمنحنا مشهدًا بانوراميًا آسرًا لحياة البادية بما فيها من بساطةٍ وقسوةٍ وجمال.
يُصعدنا عمران إلى قمم الجبال، ويهبط بنا إلى الكهوف العميقة، ويقودنا عبر الصحارى الممتدة بلا نهاية، فنكاد نسمع صفير الرياح، ونشم رائحة المطر، ونصغي إلى هدير الجمال وصيحات الرعاة وحركة الحياة التي لا تهدأ. كل شيء في هذا العالم يتحرك، ينبض، ويتنفس؛ كأن الجغرافيا في روايته كائن حي لا يعرف السكون.

الصداقة والإنسانية العابرة للحدود

إلى جانب القسوة والدماء، تمنح الرواية بصيص أمل عبر العلاقات الإنسانية، مثل الصداقة التي تجمع بين Y والطبيبة H، ثم بين H والشاب المصري. هذه العلاقات تتجاوز حدود الدين والجنسية، لتقدم نموذجًا راقيًا للإنسانية التي ما زالت قادرة على النهوض من تحت الركام.

أساور مأرب: مرآة الواقع اليمني

في النهاية، يمكن القول إن «أساور مأرب» ليست مجرد رواية عن فتاة مريضة أو طبيبة متعاطفة؛ إنها حدوتة اليمن الراهنة بكل ما فيها من حروبٍ وانقسام وتشرذم، ومن ومضات أملٍ تقاوم الانطفاء. هي عملٌ مكتوب بلغةٍ راقية وسردٍ شيق، يجمع بين الحسّ الإنساني والوعي السياسي والجمال الأدبي.

لقد تفوّق الغربي عمران على نفسه في هذا العمل، مقدّمًا روايةً توازي في عمقها وتكوينها وجع وطنٍ بأكمله، وتؤكد مرة أخرى مكانته كواحد من أهم الأصوات الروائية في اليمن والعالم العربي.