المُكَلا جميلة. أو ربما كانت جميلة، وأجمل مافيها كما وصفها الرحالة " ويندل فيلبس": بأنها مدينة بيضاء تستحم على بحرٍ أزرق"..لكن الدكتور صالح بن أبوبكر بن الشيخ سيصدمك بأن
تلك المدينة كما وصفها فيلبس لم تعد كما كانت، ويمكن أن تختفي في أي وقت  !! لحقت بها الكثير من التشوهات إلى الحد الذي بات هناك خوف حقيقي أن تختفي من الوجود ، خاصة أحياءها الثلاثة القديمة ، ليس بفعل "تسونامي" ، أو حتى احتباس حراري ولكن نتيجة للإحتباس الحضاري والثقافي الذي يلف المدينة في شتى مناحي حياتهاويطبع على حياة أهلها  رأسيًا من جميع الفئات الإجتماعيةدون استثناء!!
  صرخة ألم صادق، أو تحذير يطلقه  ابن المكلا دفاعًا عن مكلاه،"مكلانا"جميعًا  ،خشية أن يصحا، نصحو ذات صباح ، فلا نجد المكلا وتضيع معالمها نهائيًا". ومثل هذا الخوف ، أو التحذير لايصدر إلاَّ عن عاشق لمدينته المكلا، وهو يراها تنتهك أمام عينيه وتُقوض معالمها الحضارية واحدًا اثر آخر ...
  في كتابه الموسوم ( كلام عن المكلا وأهلها)الذي أهداني مشكورًا نسخة منه يختزل الدكتور صالح أبوبكر بن الشيخ كل حُبه وعشقه وخوفه وقلقه في  ٦٢٢:صفحة من القطع الكبير ، خلال ( ٣٩ فصلاً) ومقدمة وضعها أ.د عبدالله بن سعيد جسار الجعيدي، يروي فيها المؤلف تاريخ المدينة وأهلها وأشواقها ورؤى حكامها، قبل وبعد الإستقلال وكل ما حدث للمٌكَلا ، عاصمة حضرموت ومينائها من حالة تدهور وتجريف لأهم معالمها ومواقعها التاريخية، وعملية ترييف، وبناء عشوائي خلال العقود الأخيرة،  خاصة منذ عام ١٩٦٧ التي يعدها إشارة البدء بتوقف النمو الحضري الطبيعي لمدينة المكلا. ينطبق مثله وأكثرمنه على عاصمة الجنوب عدن وعلى العديد من المدن في بقية المحافظات. وبالتأكيد نجده حدث ويحدث بكل أسف للعديد من المدن العربية التي "تريفت" هي الأخرى إلى حد التوحش المخيف ، و"بلغت حدًا من التراجع الإداري والتقهقهر الحضري والتوقف المدني والتبلد الثقافي والحضاري والنضوب الفني "، كالذي انحدرت إليه المُكلا ..حالة تستدعي الألم والصراخ إلى حد الوجع بصوت عال من الدكتور صالح بن الشيخ ،
السكوت عنها لم يعد ممكنًا، ونحن نرى مدننا تضيع منا واحدة إثر أُخرى، ومعها حياتنا، وذكرياتناوذاكرة المدينة، ومعه الحاضر ناهيك عن المستقبل . فكم من معالم اختفت في أحياءالمكلا القديمة في مسلسل النهب والبيع والشراء والبناء العشوائي بيد أيادي الإنسان الهوجاء وليس بعوامل الطبيعة وعوادي الزمن فقط ؟! والمصيبة لا أحد يُبدي الندم ، فالجميع شركاء في هذه الجريمة المستمرة. السلطة المحلية، أرباب المال، محدثو النعمةوالسماسرة وأهل المكلا بسكوتهم وسلبيتهم المعهودة، دون شعور بأنهم شركاء في إغتيال مدينتهم ، وأن الخسارة تطالهم جميعًا حين يخسرون أجمل مكسب في الحياة ،، وأقصد تحديدًا الإنتماء!
 لوكانت الجدران تعرف كيف تدافع عن نفسها لفعلت ذلك منذ أول "شيول" هدم أزال سدة المكلا !! لكن لأن الصمت ساد  حينها، تواصلت عمليات الهدم والإزالة لكثير من معالم المكلا القديمة التي نعرفها وأحببناهامنذ كنا أطفالاً سواء كنا "مكلاوية" أو من الزائرين لها.. ليس الأمر مجرد إهمال، أو أيد خفية تعبث، ولكنه في جزء منه تصفية قاسية لحساب قديم ، كأن الزمن كله ضغط ووظُف للبقاء في الماضي، بل أسوأ مافيه، ومنع أي تقدم أو تطور.. وهذا يشمل ليس العمران فقط، بل الإدارة والاقتصاد والتطور الحضاري والخدمي. محاولة لوقف الزمن لا حيث كان فقط بل جره إلى الخلف والتخلف عقودًا مديدة.
  اكبر فضيحة هي الصمت . قد يكون الصمت هو سلاح الخائف، أو الضعيف،
وقد يكون جزءً من حالة ثقافية اتسم بها المكلاوية والحضارم عمومًا، أفادتهم وحمتهم من كثير من المخاطروالصراعات
 في بعض الأزمان،لكن الصمت في أحيان أخرى سلاح اخرس يلحق الضرر ويجلب المصائب، أكثر ممايجلب من فوائد. 
أدهشني الكتاب بعنوانه ومادته وجرأته في الكلام عن المسكوت عنه. وبقدر ماهو كتاب رصين عن المُكلا وأهلها، تاريخها ونشأتها، ويروي حكاية ثلاثة قرون من تاريخ المدينة وتطورها الحضاري، منذ أن كانت خيصة للصيادين، إلى أن صارت بندر يعقوب ، ومشيخةالجدجاني التي لاتذكر كثيرًا،إلى أن صارت إمارة كسادية، ثم سلطنة قعيطية، إلى سقوطها بيد الجبهة القومية سنة1967 ،وما آل إليه حال المدينة بعد هذا التاريخ إلى زمن الوحدة إلى يوم الناس هذا ...! وفي نفس الوقت أصابني بالألم والحزن الشديدين على المُكلا ..وشعرت انها سُرقت وتسرق منا كما سُرقت منا عدن، ليس مُهمًا أكان ذلك
بعنف، أو بوسائل ناعمة طالما أن النتيجة واحدة.المهم أن نعرف من هو اللص أو المجرم ، وأن نستعيدها منه ، أو مابقي منها حتى لايأتي ذلك اليوم الذي يحذر منه الكاتب صالح ابوبكر بن الشيخ
الذي يضعنا جميعًا أمام مسؤوليتنا سلطة ومواطنين في حماية ماتبقى لنا من المدينة التي مازلنا نحبها.. يضعنا في قلب النار ، ويستفز غيرتنا، وحبنا للمكلا، ويرفض -ويدعونا معه- أن نرفض السلبية والسكوت والتواطؤ والمراوغة..
  الكتاب  "شهادة على العقود الستة الأخيرة من تاريخ مدينة المكلا التي اتسمت بسرعة الأحداث ودراماتيكية التحولات " بتعبير أ.د عبدالله سعيد الجعيدي في تقديمه للكتاب . وبمعنى آخر شهادة تاريخية مؤلمة على انكسار نموذج المدينة التي كانت في يوم من الأيام مرآة حضرموت، ورمز تحضّره ونظامه المدني ووعيه الجمعي .إنه كتاب ليس كالكتب ، في منهجه العلمي الشفاف ، الذي اتبعه المؤلف في معالجة موضوع كتابه والذي كما يكشف هو نفسه عنه؛ أملتها ضرورة موضوعية علمية ملحة تتلخص في الظروف التاريخية التي نعيشها التي أوصلتنا إلى حالةمن (الإنكشاف الإجتماعي  والسياسي وبالضرورة الأخلاقي والسلوك الذي لايأتي بعده إلا الانهيار التام ) لاسمح الله ". وهي حال لم تترك للمؤلف سوى المجاهرة بالحقيقة التي قد تكون مُرة ، ولكنها جرس إنذار وقد وصلنا إلى لحظة قول الحقيقة ، فلم يعد الصمت ممكنّا ، ولاالمراوغة محتملة أو الزوغان في مثل هذه الظروف حين يكون الخطر بقرب النهاية ماثلاً وبائنًا للعيان. لهذا فإن بحث الدكتور صالح بن أبوبكر الشيخ بتعبيره نفسه ، نوع من التفكير بصوت عال ورؤية نقدية للواقع المعيش لمدينة المكلا ثم للحالة الثقافية والنمط السلوكي الذي نتج عنه على مدى مايقرب من ٣١٧عامًا من كل عمر مدينة
المكلا". وخاصة العقود الستة الأخيرة.
صرخة ينبغي أن تجد رجع الصدى قبل فوات الأوان  ...
الدكتور صالح أبوبكر بن الشيخ أبوبكر مواليد المكلا القديمة - حضرموت سنة 1948م . ليسانس دراسات إجتماعية - جامعة دمشق . دكتوراةفلسفة  PHD
ألمانيا . عضو مجلس الأمناء - جامعة ابن خلدون ( عدن. باحث مشارك - مركز البحوث والدراسات الإجتماعية- إستشاري وباحث متفرغ في تصميم وإدارة برامج ومشاريع التنمية البشرية الإقليمية والدولية.  رئيس مؤسسة البلاد الإجتماعية التنموية - المكلا - حضرموت . وشغل عدة وظائف مهمة ، فكان نائب الممثل القطري لبرنامج صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA.مدير برامج اليونسكو في التربية السكانية UNESCO.السكرتير العلمي لمركز البحوث التربوية/ عدن ، محاضر بكلية التربية العليا ومدرس بمعهد اللغات الأجنبية، جامعة عدن.
 وللكاتب عدة مؤلفات : 
 - تطوير شخصية التلاميذ (باللغة الألمانية)1986م.
 - تريم بوابة الفكر القومي العربي إلى اليمن ، علي عقيل بن يحي رائدا، 2020.
- الأثر المتبادل للهجرة اليمنية 2021 (بالإشتراك مع آخرين ).
 وترجم : الادبيات اليمنية في المراكز والمكتبات العالمية ، تأليف : كارل بروكلمان، إصدار مركز الدراسات اليمنية- صنعاء.
- تاريخ العرب ، إصدار جامعة لايبزيج ، المانيا.